قسمة8

و رواه عن تفسيره الشيخ في التهذيب «2» أيضا إلّا أنّ في أوّله: «فسّر العالم عليه السّلام» و هو كما تری لا يغيّر المطلوب.

فهذه الرواية قد وردت في بيان مصارف الزكاة و أكّدت بأنّ صرفها في هذه‏

                       

المصارف واجب علی الإمام و من وظائفه، و أكّده أخيرا بقوله: «يقوم في ذلك الإمام يعمل بما فيه الصلاح» فدلالتها علی المطلوب واضحة إلّا أنّها مرسلة أسند عليّ بن إبراهيم مفادها جزما إلی الصادق عليه السّلام و هو قد قال في مقدّمة تفسيره هذا إشارة إلی ما فيه: «و نحن ذاكرون و مخبرون بما ينتهي إلينا و رواه مشايخنا و ثقاتنا عن الّذين فرض اللّه طاعتهم و أوجب ولايتهم و لا يقبل عمل إلّا بهم ... فالعلم عندهم و القرآن معهم». فلا يقصر هذا المرسل عن روايات من لا يحضره الفقيه، و اللّه أعلم.

7- و منها ما أرسله صاحب دعائم الإسلام عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام أنّه قال في قول اللّه عزّ و جلّ: وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها قال: هم السعاة عليها، يعطيهم الإمام من الصدقة بقدر ما يراه ليس في ذلك توقيت عليه «1».

8- و منها ما أرسله عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام أنّه قال في قول اللّه عزّ و جلّ:

وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ قال: هم قوم يتألّفون علی الإسلام من رؤساء القبائل، كان رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله يعطيهم ليتألّفهم و يكون ذلك في كلّ زمان إذا احتاج إلی ذلك الإمام فعله 2.

فالمرسلان وردا في تفسير صنفين من مصارف الزكاة و جعلا أمر مقدار ما يعطی فيهما إلی الإمام، فيدلّان علی أنّ أمر مصرف الزكاة بيده.

9- و بعد ملاحظة هذه الأخبار الكثيرة الواضحة الدلالة لا يبعد الاستدلال للمطلوب أيضا بصحيحة زرارة و محمّد بن مسلم أنّهما قالا لأبي عبد اللّه عليه السّلام مشيرين إلی الأصناف المذكورين في آية إِنَّمَا الصَّدَقاتُ: أ كلّ هؤلاء يعطی و إن كان لا يعرف؟ فقال عليه السّلام: إنّ الإمام يعطي هؤلاء جميعا لأنّهم يقرّون له بالطاعة، قال زرارة: قلت: فإن كانوا لا يعرفون؟ قال: يا زرارة لو كان يعطی من يعرف دون من لا يعرف لم يوجد لها موضع، و إنّما يعطی من لا يعرف ليرغب في الدين فيثبت عليه، فأمّا اليوم فلا تعطها أنت و أصحابك إلّا من يعرف، فمن وجدت‏

                       

من هؤلاء المسلمين عارفا فاعطه دون الناس ... الحديث «1».

بيان الدلالة: أنّ جوابه الأوّل في صدر الحديث: «إنّ الإمام يعطي هؤلاء جميعا لأنّهم يقرّون له بالطاعة» حاصله أنّ الإمام إذا تصدّی خارجا لولاية أمر الامّة فالزكاة بيده و يعطيها من كان من العامّة و ممّن لا يعرف أمر الإمامة علی ما هو عليه لأنّ الناس حينئذ كلّهم داخلون في زمرة الامّة يقرّون له بالطاعة، و هذا هو مطلوبنا الآن من أنّ أمر الزكاة إلی الإمام عليه السّلام.

ثمّ إنّ قوله عليه السّلام في أواخر الفقرات: «فأمّا اليوم فلا تعطها أنت و أصحابك إلّا من يعرف» مفاده أنّ هذا اليوم الّذي ليس الأمر خارجا بيد الأئمّة الهداة بل بيد السلاطين الجائرين العصاة فأنتم شيعة آل محمّد مكلّفون بأن تصرفوا بأنفسكم زكاة أموالكم في مصارفها فلا تعطوها إلّا من كان يعرف حقّ الأئمّة عليهم السّلام من شيعتهم.

و هذه الصحيحة بنفسها قرينة جليّة لتوضيح الحكم الإلهي في زكاة الأموال و أنّه إذا كان أمر إدارة امور أمّة الإسلام بيد أئمّة الحقّ الهداة فالواجب إعطاء الزكاة إليهم، و إذا كان الأمر بيد العصاة الجائرين فالشيعة أنفسهم يتصدّون لصرف زكاة مالهم في مصرفها، و هي قرينة علی حمل إطلاق سائر روايات تجويز أداء المكلّفين بأنفسهم لزكاة مالهم، بل و لو لم تكن بيدنا هذه الصحيحة و أمثالها لكان مقتضی الجمع العرفي بين هذه الأدلّة الكثيرة الواضحة الدلالة علی أنّ أمر الزكاة بيد النبيّ أو الأئمّة عليهم السّلام و بين إطلاق سائر أخبار تجويز الأداء لهذا التفصيل، و الحمد للّه تعالی.

فالحاصل: أنّ هنا أخبارا كثيرة مستفيضة بينها روايات معتبرة السند بنفسها أيضا تدلّ علی أنّ أخذ الإمام للزكاة واجب، و قد عرفت أنّ وجوبه مستلزم بوجهين بوجوب الأداء إليه، فتذكّر.

                       

بل أنت بالتذكّر لما مرّ في أوائل الكتاب من أنّ كلّ ما كان بحكم الشرع بيد نبيّ الإسلام و من وظائفه و اختياراته فهو بعينه اختيار و وظيفة لكلّ من الأئمّة المعصومين عليهم السّلام كلّ في زمنه لأنّ هذه الوظيفة و هذا الخيار من خصوصيّات الولاية الإسلامية فيثبت لوليّ أمر الامّة في كلّ زمان، فمن هذه الجهة يمكن إثبات وجوب أخذ الزكاة علی الأئمّة عليهم السّلام بمعونة الأدلّة الدالّة علی إثباته لنبيّ الإسلام صلّی اللّه عليه و آله من آية ايجاب الأخذ و صحيح زرارة الماضي.

هذا كلّه حول الطائفة الاولی من الأخبار و هي ما تدلّ علی وجوب أخذ الزكاة علی الإمام بما أنّه إمام.

الطائفة الثانية: ما تدلّ علی وجوب أخذ زكاة الأموال علی الوالي، و هو عنوان يشمل النبيّ و الإمام صلوات اللّه عليهما، و هي أخبار:

1- منها مرسلة حمّاد الطويلة- المعمول بها- عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح عليه السّلام ففيها: «و الأرضون الّتي اخذت عنوة بخيل و رجال فهي موقوفة متروكة في يد من يعمرها و يحييها و يقوم عليها علی ما يصالحهم الوالي علی قدر طاقتهم من الحقّ بالنصف أو الثلث أو الثلثين و علی قدر ما يكون لهم صلاحا و لا يضرّهم، فإذا أخرج منها ما أخرج بدء فأخرج منه العشر من الجميع ممّا سقت السماء أو سقي سيحا و نصف العشر ممّا سقي بالدوالي و النواضح فأخذه الوالي فوجّهه في الجهة الّتي وجّهها اللّه علی ثمانية أسهم: لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ ثمانية أسهم يقسّم بينهم في مواضعهم بقدر ما يستغنون به في سنتهم بلا ضيق و لا تقتير، فإن فضل من ذلك شي‏ء ردّ إلی الوالي، و إن نقص من ذلك شي‏ء و لم يكتفوا به كان علی الوالي أن يمونهم من عنده بقدر سعتهم حتّی يستغنوا- إلی أن قال بعد ذكر حكم طسق هذه الأراضي، و بعد ذكر أنّ الأنفال أيضا للإمام، و بعد ذكر أنّ اللّه لم يترك شيئا من صنوف الأموال إلّا و قد قسّمه علی العدل ما لفظه-:

                       

و كان رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله يقسّم صدقات البوادي في البوادي و صدقات أهل الحضر في أهل الحضر و لا يقسّم بينهم بالسوية علی ثمانية حتّی يعطي أهل كلّ سهم ثمنا، و لكن يقسّمها علی قدر من يحضره من أصناف الثمانية علی قدر ما يقيم كلّ صنف منهم يقدّر لسنته [بقدر سنته- خ ئل‏] ليس في ذلك شي‏ء موقوف و لا مسمّی و لا مؤلّف، إنّما يصنع ذلك علی قدر ما يری و ما يحضره حتّی يسدّ كلّ فاقة كلّ قوم منهم، و إن فضل من ذلك فضل عرضوا المال جملة إلی غيرهم و الأنفال إلی الوالي و كلّ أرض فتحت في أيّام النبيّ صلّی اللّه عليه و آله إلی آخر الأبد و ما كان افتتاحا بدعوة أهل الجور و أهل العدل، لأنّ ذمّة رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله في الأوّلين و الآخرين ذمّة واحدة، لأنّ رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله قال: «المسلمون اخوة تتكافأ دماؤهم يسعی بذمّتهم أدناهم» «1».

و قد ذكرنا هذه القسمة من المرسلة بطولها لأنّ بعضها يشرح الآخر، ففي ابتدائها قد ذكر أنّ أمر الأراضي المفتوحة عنوة بيد الوالي يصفها بيد أهاليها علی قدر ما يراه مصلحة و لا يضرّهم، ثمّ بعد ما خرج غلّتها أخذ منها الزكاة الواجبة و تكون بيده يصرفها في مصارفها الثمانية المشروعة، فإنّ فضل منها شي‏ء يكون في يده، و إن نقص في سدّ حاجة الأصناف الثمانية كان عليه أن يمونهم من عنده حتّی يستغنوا، ثمّ بعد ذكر أنّ طسق هذه الأراضي أيضا بيده ذكر أنّ رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله كان أيضا يأخذ الصدقات الواجبة علی أهل البوادي و الحضر و يقسّمها مواضعها من الأصناف الثمانية بقدر ما يراه صلاحا. و بعد ذلك كلّه أفاد أنّ الأنفال و كلّ الأراضي المفتوحة إلی آخر الأبد تكون بيد الوالي، و السرّ في ذلك كلّه أنّ الحاكم هي ذمّة رسول اللّه و ذمّته في الأولين و الآخرين واحدة و هو صلّی اللّه عليه و آله قال: «المسلمون اخوة تتكافأ دماؤهم يسعی بذمّتهم أدناهم» فلا محالة علی والي المسلمين الأكبر

                       

بعده و علی الولاة المنصوبين بتوليته رعاية هذه الذمّة في جميع مواردها.

فمنه يظهر بوضوح أنّ زكاة الأموال لا بدّ و أن تكون بيد وليّ الأمر نبيّا كان أو إماما أو ولاة الامور ينصبهم، و تدلّ بوضوح أنّ الموضوع الأصيل هو الوالي فلا فرق فيه بين النبيّ و الإمام و لا بين ولاة البلاد المنصوبين إلّا الأصالة و التبعية.

2- و منها صحيحة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام- الواردة في حديث دخول جمع من المعتزلة عليه قد بايعوا محمّد بن عبد اللّه بن الحسن علی الولاية للمسلمين فسألوا من الإمام عليه السّلام أن يدخل هو و شيعته أيضا في جمعهم فأسند هذا الجمع أمرهم إلی عمرو بن عبيد فاحتجّ عليه السّلام عليه، فقال له بعد فرض أنّهم اجتمعت الامّة علی ولايتهم و وقع الأمر بيدهم أنّهم ما ذا يفعلون في ولايتهم؟ فقال عليه السّلام في هذه الموارد: «ما تقول في الصدقة؟ فقرأ عليه الآية: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها ... إلی آخر الآية قال عليه السّلام: نعم، فكيف تقسّمها؟ قال: اقسّمها علی ثمانية أجزاء فاعطي كلّ جزءا من الثمانية جزء، قال عليه السّلام: و إن كان صنف منهم عشرة آلاف و صنف منهم رجلا واحدا أو رجلين أو ثلاثة جعلت لهذا الواحد مثل ما جعلت للعشرة آلاف؟ قال: نعم، قال عليه السّلام: و تجمع صدقات أهل الحضر و أهل البوادي فتجعلهم فيها سواء؟ قال: نعم، قال عليه السّلام: فقد خالفت رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله في كلّ ما قلت في سيرته: كان رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله يقسّم صدقة أهل البوادي في أهل البوادي و صدقة أهل الحضر في أهل الحضر، و لا يقسّمه بينهم بالسوية و إنّما يقسّمه علی قدر ما يحضره منهم و ما يری، و ليس عليه في ذلك شي‏ء موقّت موظّف، و إنّما يصنع ذلك بما يری علی قدر من يحضره منهم. فإن كان في نفسك ممّا قلت شي‏ء فالق فقهاء أهل المدينة فإنّهم لا يختلفون في أنّ رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله كذا كان يصنع.

ثمّ أقبل عليه السّلام علی عمرو بن عبيد فقال له: اتّق اللّه و أنتم أيّها الرهط فاتّقوا اللّه، فإنّ أبي حدّثني- و كان خير أهل الأرض و أعلمهم بكتاب اللّه و سنّة نبيّه صلّی اللّه عليه و آله- أنّ‏

                       

رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله قال: من ضرب الناس بسيفه و دعاهم إلی نفسه و في المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ متكلّف «1».

فقد سأله الإمام عليه السّلام عن هذه الامور و عدّ منها صدقة الزكاة فسأله أنّه إن ولي الأمر فكيف يصنع بها؟ فأجابه بما أجاب و خطّأه الإمام بأنّ سيرة رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله كانت علی خلاف ما أجاب، و هذا السؤال منه دليل علی أنّ أمر أخذ الزكاة و صرفها في مصارفها ممّا هو موكول إلی وليّ الأمر و أنّ رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله لهذه العناية كان يتولّاه.

فالصحيحة دالّة علی أنّ أمر صدقة الزكاة بيد من ولي أمر المسلمين سواء فيه النبيّ و الإمام و سائر الولاة، و الحديث النبوي المذكور أخيرا أيضا شاهد آخر علی أنّ هذه الامور الّتي منها صدقة الزكاة بيد من يدعو الناس إلی نفسه بحقّ و يصرّح بشرط الأعلمية في وليّ الأمر، و لعلّه يأتي البحث عنه إن شاء اللّه تعالی.

3- و منها ما في قسم الرسائل من نهج البلاغة: من وصية له عليه السّلام كان يكتبها لمن يستعمله علی الصدقات: انطلق علی تقوی اللّه وحده لا شريك له ... ثمّ تقول: عباد اللّه أرسلني إليكم وليّ اللّه و خليفته لآخذ منكم حقّ اللّه في أموالكم فهل للّه في أموالكم من حقّ فتؤدّوه إلی وليّه؟ فإن قال قائل: لا، فلا تراجعه، و إن أنعم لك منعم فانطلق معه ... و اصدع المال صدعين ... حتّی تأخذ حقّ اللّه في ماله ... و لا تأمننّ عليها إلّا من تثق بدينه رافقا بمال المسلمين حتّی يوصله إلی وليّهم فيقسّمه بينهم «2».

و بيان الدلالة: أنّ قوله عليه السّلام أخيرا: «حتّی يوصله إلی وليّهم فيقسّمه بينهم» يدلّ علی أنّ شأن هذا الحقّ المالي أن يجعل بيد وليّ أمر المسلمين فيقسّمه‏

                       

مصارفه الشرعية، فيدلّ علی أنّ أخذ الزكاة من وظائف وليّ أمر الامّة الشامل للنبيّ و الإمام صلوات اللّه عليهما. و لا ينافيه قوله عليه السّلام قبله: «أرسلني إليكم وليّ اللّه و خليفته لآخذ منكم حقّ اللّه في أموالكم» بزعم دلالته علی أنّ أخذه من اختيارات وليّ اللّه و هو غير وليّ أمر المسلمين. سرّ عدم المنافاة: إنّ عنوان وليّ اللّه عنوان أخصّ اجتمع مع عنوان وليّ أمر الامّة، و حينئذ فذكر عنوان وليّ أمر المسلمين فيه دلالة علی كونه عنوانا تامّا كافيا لمن إليه اختيار أخذ الزكاة و إنفاقها في مصارفها. نعم إذا اريد إثبات هذا الحقّ لوليّ أمر الامّة إذا كان من غير المعصومين و لا ممّن نصبه الإمام لأخذه لكان محلّ إشكال.

لكنّه مع ذلك فيمكن أن يقال: إنّ دلالة الفقرة الأخيرة علی ما ذكر ممنوعة لاحتمال أن يراد به أنّ لوليّ أمر المسلمين أن يقوم بأخذ هذا الحقّ المالي و أمّا و أنّ أخذه من وظائفه فلا. فغاية مدلول هذا الكتاب أنّ الإمام عليه السّلام كان يأخذ صدقة الزكاة و أنّ أخذها لولي أمر الامّة جائز، و أمّا أنّ أخذها وظيفة له و واجب عليه فلا. و في الخبرين قبله كفاية.

فقد تحصّل: أنّ الكتاب الكريم و الأخبار الكثيرة المعتبرة تامّ الدلالة علی أنّ أخذ زكاة أموال الناس واجب علی النبيّ و الأئمّة صلوات اللّه عليهم و أنّ هذا من اختياراتهم و وظائفهم، بل من ناحية نصبهم أنّ هذا الحقّ ثابت لمن ولّوه أمر بلدة أو بلاد، و قد عرفت أنّ وجوب أخذها عليهم يستلزم من وجهين وجوب أداء الزكاة إليهم علی المكلّفين.

فبعد ما ظهر أنّ أخذ زكاة الأموال من الناس واجب علی النبيّ و الإمام صلوات اللّه عليهما بما أنّهما وليّ أمر الامّة، فلا بأس حينئذ بذكر روايات تدلّ علی أنّهما كانا يقومان بالعمل بهذه الوظيفة فتارة وردت في الرسول الأعظم، و اخری في الإمام عليهما السّلام.

أمّا في رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله فتدلّ عليه- مضافا إلی ما مرّ من صحيحة عبد اللّه بن‏

                       

سنان عن الصادق عليه السّلام و من مرسل الدعائم عن الباقر عليه السّلام و من مرسلة حمّاد الطويلة و صحيحة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي- أيضا روايات:

1- منها ما رواه الكليني في الكافي في باب المؤلّفة قلوبهم بسنده الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: المؤلّفة قلوبهم قوم و وحّدوا اللّه و خلعوا عبادة [من يعبد] من دون اللّه و لم تدخل المعرفة قلوبهم أنّ محمّدا صلّی اللّه عليه و آله رسول اللّه و كان رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله يتألّفهم و يعرّفهم لكيما يعرفوا و يعلّمهم «1».

بيان الدلالة: أنّ عنوان المؤلّفة قلوبهم حيث قد وقع في آية مصرف الزكاة فقط فلا محالة يكون ذكر تألّف رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله لهم في معنی أنّه يصرف صدقة الزكاة فيهم، فيدلّ علی أنّه صلّی اللّه عليه و آله كان يأخذ الزكاة فيصرفها فيهم.

2- و منها ما رواه الكليني أيضا بسند معتبر عن موسی بن بكر عن رجل قال:

قال أبو جعفر عليه السّلام: ما كانت المؤلّفة قلوبهم قطّ أكثر منهم اليوم، و هم قوم وحّدوا اللّه و خرجوا من الشرك و لم تدخل معرفة محمّد رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله قلوبهم و ما جاء به فتألّفهم رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله و تألّفهم المؤمنون بعد رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله لكيما يعرفوا 2.

و بيان دلالته أيضا يعرف ممّا سبق إلّا أنّه كما تری مرسل.

3- و منها ما رواه عيص بن القاسم بسند صحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ اناسا من بني هاشم أتوا رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله فسألوه أن يستعملهم علی صدقات المواشي و قالوا: يكون لنا هذا السهم الّذي جعله اللّه عزّ و جلّ للعاملين عليها فنحن أولی به، فقال رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله: يا بني عبد المطّلب (هاشم) إنّ الصدقة لا تحلّ لي و لا لكم ... الحديث «3».

و بيان دلالته: أنّ مراجعتهم إلی الرسول لالتماس أن يستعملهم علی الصدقات بعنوان الْعامِلِينَ عَلَيْها تكشف عن أنّ أمر أخذ الزكاة و توجيه العمّال لجبايتها كان‏

                       

خارجا بيده المباركة، فأجابهم بأنّ الصدقة له و لهم محرّمة.

4- و منها ما رواه الكليني في كتاب الزكاة من الكافي بسند صحيح عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله يقسّم صدقة أهل البوادي في أهل البوادي و صدقة أهل الحضر في أهل الحضر، و لا يقسّمها بينهم بالسوية إنّما يقسّمها علی قدر ما يحضره منهم و ما يری، ليس في ذلك شي‏ء موقّت «1».

و دلالته كما تری واضحة، و لعلّه تقطيع من تلك الصحيحة الماضية الطويلة إلّا أنّه رواه مستقلّا، و رواه عنه الشيخ أيضا «2».

5- و منها ما رواه الكليني في كتاب الزكاة من الكافي في باب النوادر بسند موثّق عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ قال: كان رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله إذا أمر بالنخل أن يزكّی يجي‏ء قوم بألوان من تمر و هو من أردی التمر يؤدّونه من زكاتهم تمرا يقال له الجعرور و المعافارة قليلة اللحا عظيمة النوی و كان بعضهم يجي‏ء بها عن التمر الجيّد، فقال رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله: لا تخرصوا هاتين التمرتين و لا تجيئوا منها بشي‏ء، و في ذلك نزل: وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ «3» و الإغماض أن تأخذ هاتين التمرتين «4». و رواه العيّاشي في تفسيره مرسلا عن أبي بصير «5».

و بيان دلالته: أنّ أمره صلّی اللّه عليه و آله بأن يزكّی النخل إقدام منه بأخذ زكاته و لذلك قال:

 «يؤدّونه من زكاتهم تمرا يقال له الجعرور و المعافارة» فمن يؤدّونه له هو الرسول.

                        

و يدلّ عليهما أيضا قوله صلّی اللّه عليه و آله بعد ذلك: «لا تخرصوا هاتين التمرتين» فإنّ الظاهر أنّ النهي متوجّه إلی عمّال الصدقة. و بالجملة: فتدلّ هذه المعتبرة أيضا علی أنّه صلّی اللّه عليه و آله كان يأخذ الزكاة.

6- و منها ما أرسله العيّاشي عن رفاعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه: إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ فقال رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله: بعث عبد اللّه بن رواحة فقال: لا تخرصوا جعرورا و لا معافارة، و كان اناس يجيئون بتمر سوء فأنزل اللّه جلّ ذكره: وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ و ذكر أنّ عبد اللّه خرص عليهم تمر سوء فقال النبيّ صلّی اللّه عليه و آله: يا عبد اللّه لا تخرص جعرورا و لا معافارة «1». و قريب منه ما أرسله عن إسحاق بن عمّار عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام 2.

7- و منها ما رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره في تفسير الأصناف الثمانية للزكاة فقال: و بيّن الصادق عليه السّلام من هم ... و المؤلّفة قلوبهم قوم و وحّدوا اللّه و لم تدخل المعرفة في قلوبهم من أنّ محمّدا صلّی اللّه عليه و آله رسول اللّه، فكان رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله يتألّفهم و يعلّمهم كيما يعرفوا فجعل اللّه لهم نصيبا في الصدقات لكي يعرفوا و يرغبوا «3».

و وجه دلالته: أنّه قد جاء تفسير البعض مصارف الزكاة فلا محالة يكون فعل الرسول أعمالا لإنفاق الزكاة في بعض مصارفها إلّا أن يقال: لعلّ هذا الإنفاق كان قبل نزول الآية و من غير طريق الزكاة و لم يتعرّض التفسير لفعله بعد نزول الآية فتأمّل.

هذه هي الأخبار الّتي وقفت عليها ممّا تدلّ علی أنّ النبيّ صلّی اللّه عليه و آله قد قام بأخذ زكاة المال من المسلمين، و لعلّ المتتبّع يظفر بأزيد منها.

و أمّا بالنسبة إلی الإمام عليه السّلام فمضافا إلی ما مرّ- من صحيحة زرارة و محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و من مرسل القمّي و من رواية نهج البلاغة الّتي مضت‏

                       

في أخبار تدلّ علی وجوب أخذ الزكاة علی الإمام فمضافا إليها- تدلّ علی المطلوب عدّة اخری من الأخبار:

1- فمنها صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: ما يعطی المصدّق؟ قال: ما يری الإمام و لا يقدّر له شي‏ء «1».

وجه دلالتها: أنّ ظاهر إيكال تعيين مقدار ما يعطی المصّدّق الّذي هو من العاملين إلی ما يراه الإمام شاهد علی أنّ الإمام هو الآخذ للزكاة و الباعث للعامل فلذا كان عليه تعيين ما يستحقّه عاملوه.

2- و منها صحيحة بريد بن معاوية المروية في الكافي و التهذيب و [عن مقنعة المفيد مرسلا] قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: بعث أمير المؤمنين عليه السّلام مصدّقا من الكوفة إلی باديتها فقال له: يا عبد اللّه انطلق و عليك بتقوی اللّه وحده لا شريك له ... ثمّ قل لهم: يا عباد اللّه أرسلني إليكم وليّ اللّه لآخذ منكم حقّ اللّه في أموالكم فهل للّه في أموالكم من حقّ فتؤدّوه إلی وليّه ... الحديث «2».

فإنّها واضحة الدلالة علی أنّ الإمام أمير المؤمنين كان يبعث المصّدّق لأن يأخذ من الناس حقّ اللّه في أموالهم، و واضح أنّ حقّ اللّه المذكور ليس إلّا الصدقة الواجبة- أعني الزكاة-.

2- و منها معتبر غياث بن إبراهيم الّذي رواه الكليني عنه عن جعفر عن أبيه عليهما السّلام قال: كان عليّ صلوات اللّه عليه إذا بعث مصدّقه قال له: إذا أتيت علی ربّ المال فقل: تصدّق رحمك اللّه ممّا أعطاك اللّه، فإن ولّی عنك فلا تراجعه 3.

و دلالته أيضا واضحة علی أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام كان يأخذ الزكاة و يبعث مصدّقه لذلك.

                       

4- و منها ما رواه مستدرك الوسائل عن كتاب الغارات بإسناده عن عبد الرحمن بن سليمان عن الصادق عليه السّلام قال: بعث عليّ عليه السّلام مصدّقا من الكوفة إلی باديتها فقال:

عليك بتقوی اللّه ... ثمّ امض إليهم بسكينة و وقار حتّی تقوم بينهم فتسلّم عليهم فتقول: يا عباد اللّه أرسلني إليكم وليّ اللّه لآخذ منكم حقّ اللّه فهل للّه في أموالكم من حقّ فتؤدّونه إلی وليّه؟ فإن قال قائل منهم: لا، فلا تراجعه ... الحديث «1».

و دلالته واضحة كما مرّ في ذيل صحيح بريد بن معاوية و ما عن نهج البلاغة، فتذكّر.

5- و منها ما في المستدرك عن الدعائم مرسلا عن عليّ عليه السّلام أنّه أوصی مخنف بن سليم الأزدي و قد بعثه علی الصدقة بوصية طويلة أمره فيها بتقوی اللّه ...

و قال له: يا مخنف بن سليم إنّ لك في هذه الصدقة حقّا و نصيبا مفروضا و لك فيها شركاء فقراء و مساكين و غارمين و مجاهدين و أبناء سبيل و مملوكين و متألّفين، و إنّا موفّوك حقّهم، فوفّهم حقوقهم 2.

فمخنف كان عاملا له عليه السّلام لجباية صدقة الزكاة بقرينة ذكر شركاء سبعة له في هذه الصدقة هم بقية الأصناف الثمانية، ففي الرواية دلالة واضحة علی أنّه عليه السّلام كان يأخذ الصدقات- أعني زكاة الأموال-.

6- و منها ما في المستدرك عن نهج البلاغة من عهد له عليه السّلام إلی بعض عمّاله و قد بعثه علی الصدقة: أمره بتقوی اللّه في سرائر أمره و خفيّات عمله ...

و أنّ لك في هذه الصدقة نصيبا مفروضا و حقّا معلوما و شركاء أهل مسكنة و ضعفاء ذوي فاقة، و إنّا موفوك حقّك فوفّهم حقوقهم، و إن لا تفعل فإنّك من أكثر الناس خصوما يوم القيامة، و بؤسی لمن خصمه عند اللّه الفقراء و المساكين و السائلون و المدفوعون و الغارمون و ابن السبيل ... «3». و قد رواه في تمام نهج‏

                       

البلاغة قائلا: إنّها عهد إلی مخنف بن سليم الأزدي «1».

و هذه الرواية أيضا بمثل القرينة الّتي ذكرناها في سابقتها مختصّة بعامل جباية الزكاة، ففيها أيضا دلالة واضحة علی المطلوب.

فهذه الأخبار العديدة قد دلّت علی أنّ النبيّ صلّی اللّه عليه و آله و الإمام عليه السّلام كانا عند تصدّي ولاية الأمر يأخذان زكاة أموال الناس، بل يظهر ممّا مرّ من سؤال الصادق عليه السّلام عمرو بن عبيد المعتزلي فسأله عمّا يفعل بالصدقات أنّ بناء ولاة الأمر في الإسلام علی أخذ زكاة أموال الناس و بهذه المناسبة كان السؤال منه واقعا في محلّه.

بل يظهر من بعض الروايات أنّ خلفاء الجور أيضا كانوا يبعثون عاملين لأخذ زكاة أموال الناس، ففي صحيحة أبي اسامة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: جعلت فداك إنّ هؤلاء المصّدّقين يأتونا و يأخذون منّا الصدقة فنعطيهم إيّاها أ تجزي عنّا؟ فقال:

لا، إنّما هؤلاء قوم غصبوكم- أو قال: ظلموكم- أموالكم، و إنّما الصدقة لأهلها «2».

فهؤلاء المصّدّقون كانوا لا محالة مبعوثين من ناحية سلاطين الجور لأخذ الصدقات، و السؤال من الإمام بقوله: «أ تجزي عنّا؟» شاهد علی أنّ الصدقة المذكورة صدقة واجبة يتوقّع من أدائها الإجزاء و هي الزكاة.

فتحصّل: أنّ أخذ الزكاة من الأموال واجب علی وليّ الأمر من النبيّ و الإمام عليهما السّلام و أنّهما كانا يقومون بأخذها منهم.

و هنا تكملة: و هي أنّه بناء علی أنّ أخذ زكاة أموال الناس واجب علی وليّ الأمر- النبيّ أو الإمام صلوات اللّه عليهما- فإن كان الناس يؤدّونه إليه بأنفسهم فليس يجب عليه إلّا تعيين محلّ تجعل فيه الزكوات أو نصب من يعتمد عليه لأخذها، و أمّا إذا كانوا لا يؤدّونها إليه إلّا ببعث عامل إليهم فيجب من باب مقدّمة

                       

الواجب بعث العاملين إليهم، و علی هذا يحمل ما مرّ من أنّ أولياء أمر الامّة يبعثون سعاة إلی الناس لأخذها.

و أمّا بناء علی أفضلية أدائها إلی وليّ الأمر فليس عليه من هذه الجهة بعث العاملين بل أداء الزكاة أيضا مثل غيره من وظائف الناس يجب عليهم أداؤها و لا يجب التفحّص في خصوص الزكاة أيضا عن حالهم. نعم إذا علم وليّ الأمر أنّهم لا يأتمرون بمجرّد ايجاب اللّه تعالی عليهم أدائها فمن باب الأمر بالمعروف يجب علی وليّ الأمر بعث عاملين إمّا لأخذها و إمّا لتسلّم أدائها إلی المصارف الشرعية. نعم علی هذا المبنی إذا اقتضت مصلحة اخری رآها وليّ الأمر أن يأخذها منهم فطبقا لهذه المصلحة يأمر الناس بأدائها إليه و ربما يبعث عاملا إليهم لأخذها منهم حسب اختلاف الموارد، و معلوم أنّ إطاعة أمره واجبة علی الناس.

و منه تعرف أنّ الإفتاء بوجوب بعث العاملين علی الإمام مطلقا سيّما علی المبنی الأخير غير وجيه كما يظهر من الشيخ في المبسوط بل لا بدّ من تقييده بما عرفت، و ليس مجرّد فعل الرسول صلّی اللّه عليه و آله دليلا علی إطلاق الوجوب بعد وجود مصلحة خاصّة داعية إلی بعثهم.

و ممّا ذكرنا تعرف تسامحا ما فيما ذكره المحقّق في المعتبر و العلّامة في المنتهی تعليقا علی كلام الشيخ هنا، و قد مرّ فراجع.

 [حول وجوب قبول دعوی المكلّف بعدم وجوب الزكاة عليه‏]

المسألة الثانية: إذا بعث وليّ الأمر عاملا لأخذ الزكاة فأتی العامل عند مكلّف و طلب منه الزكاة فأجابه بأنّ الزكاة لم تتعلّق بمالي لعدم حلول الحول فيه- فيما يتوقّف وجوبها علی حلوله- أو لعدم وجود بعض آخر من شرائط الوجوب أو بأنّي أدّيت زكاة مالي فهل يقبل منه؟

قد تعرّض لهذا الفرع الشيخ في المبسوط و المحقّق في الشرائع و النافع و العلّامة في القواعد و التذكرة، و قال كلّهم بقبول دعواه من دون حاجة إلی بيّنة و يمين إلّا أنّ موضع كلام جميع هذه الكتب دعوی أداء الزكاة بنفسه، و عبارة التذكرة هكذا: «فإن قال المالك: أخرجت الزكاة أو لم يحلّ علی مالي الحول أو

                       

أبدلته صدّقه من غير يمين». و قد مرّت عباراتهم.

أقول: إنّ مقتضی القواعد الأولية عدم ايجاب الزكاة عليه فيما يدّعي عدم وجوبها عليه فإنّ أصل البراءة موافق لقوله، و أمّا إذا ادّعی أداءها فمع عدم ثبوت قوله فالاستصحاب حاكم ببقاء الوجوب علی عهدته، فقبول دعواه خلاف القواعد الأولية.

و كيف كان فيمكن الاستدلال بقبول قوله بأخبار خاصّة:

1- منها صحيحة بريد بن معاوية قال: سمعت أبا عبد اللّه يقول: بعث أمير المؤمنين عليه السّلام مصدّقا من الكوفة إلی باديتها فقال له: يا عبد اللّه عليك بتقوی اللّه ... فإذا قدمت فانزل بمائهم ... ثمّ قل لهم: يا عباد اللّه أرسلني إليكم وليّ اللّه لآخذ منكم حقّ اللّه في أموالكم فهل للّه في أموالكم من حقّ فتؤدّوه إليه؟ فإن قال لك قال: لا، فلا تراجعه و إن أنعم لك منهم منهم فانطلق معه ... الحديث «1».

موضع الدلالة قوله عليه السّلام: «فإن قال لك قائل: لا، فلا تراجعه» فأوجب علی العامل قبول قوله: «لا» و عدم مراجعته بعده لأخذ الزكاة منه، و هو عبارة اخری عن قبوله قوله بالنفي.

و مفاد هذا النفي نفي ما سأل عنه العامل- أعني نفي أن يكون للّه في أمواله حقّ- و نفي ثبوت حقّ للّه في أمواله قد ينشأ عن أدائه قبل ذلك لما وجب عليه كما ينشأ من عدم تعلّق حقّ الزكاة بماله من رأس، و لذلك فإطلاق حكمه عليه السّلام بقبول قوله يثبت قبول قوله في كلا الموردين كما أفاده العلّامة في التذكرة.

2- و منها ما في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السّلام من أنّه كان يكتب في وصيّته يكتبها لمن يستعمله علی الصدقات: انطلق علی تقوی اللّه ... فإذا قدمت علی الحيّ فأنزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم ... ثمّ تقول: عباد اللّه أرسلني إليكم وليّ اللّه و خليفته لآخذ منكم حقّ اللّه في أموالكم فهل للّه في أموالكم من حقّ فتؤدّوه إلی‏

                       

وليّه؟ فإن قال قائل: لا، فلا تراجعه، و إن أنعم لك منعم فانطلق معه ... الحديث «1».

و هو في موضع الدلالة و مقدار الدلالة مثل صحيحة بريد كما هو واضح.

3- و منها موثّق غياث بن إبراهيم المروي عن الكافي عن جعفر عن أبيه عليهما السّلام قال: كان عليّ صلوات اللّه عليه إذا بعث مصدّقه قال له: إذا أتيت علی ربّ المال فقل: تصدّق رحمك اللّه ممّا أعطاك اللّه، فإن ولّی عنك فلا تراجعه «2».

و موضع الدلالة فيه فقرته الأخيرة و هو- كما تری- في مقدار الدلالة مثل صحيحة بريد و خبر نهج البلاغة.

4- و منها ما مرّ من قول أمير المؤمنين لمصدّقه- علی ما عن كتاب الغارات-:

فإن قال قائل منهم لا، فلا تراجعه.

و قد مضی نقله في عداد الأخبار الدالّة علی أخذ الإمام لزكاة الأموال تحت الرقم 4. و مقدار دلالته مثل صحيح بريد.

5- و منها ما رواه المستدرك عن دعائم الإسلام عن عليّ عليه السّلام عن رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله أنّه نهی عن أن يحلف الناس علی صدقاتهم قال: «هم فيها مأمونون «3».

و واضح أنّ مورده الصدقة الواجبة الأداء كزكاة المال و زكاة الفطرة، و إلّا فالمندوب لا يجب أداؤه بالمرّة فلا يستتبع حلفا علی الأداء و قوله صلّی اللّه عليه و آله: «هم فيها مأمونون» دليل علی قبول قولهم في صدقاتهم و هو مطلق من حيث أن يقولوا بأدائها أو أن يقولوا بعدم وجوبها عليهم من رأس. إلّا أنّ الرواية مرسلة.

فتحصّل: أنّ المستفاد من هذه الأخبار العديدة أنّ قول المكلّف للعامل في زكاة ماله مقبول، سواء ادّعی أداءها أم ادّعی أنّ الوجوب لم يتعلّق به. و الحمد للّه.

 [هل يجزئ صرف المكلّف نفسه للزكاة في مصارفها؟]

المسألة الثالثة: إذا كان أداء الزكاة إلی وليّ الأمر واجبا فإنّ أدّاها المكلّف بنفسه إلی‏

                       

المصارف الثمانية و لم يؤدّها إلی وليّ الأمر فهل يجزي في امتثال تكليف وجوب الزكاة.

و توضيح المقام أنّه بناء علی وجوب أدائها ابتداء إلی الإمام فتكليف وجوب الأداء إليه متعلّق بالمكلّف دائما و إن لم يطلب الإمام أداءها إليه، و أمّا علی مبنی عدم وجوب الأداء إليه ابتداء فلا محالة يكون تعلّق الوجوب به منوطا بطلبه ليكون امتثال أمره واجبا.

ثمّ لا ينبغي الريب في أنّه إذا لم يؤدّ إليه فقد أثم بعصيانه لتكليف وجوب الأداء إليه. و إنّما الكلام في أنّ الأداء إليه شرط لصحّة الزكاة حتّی يكون أداؤها بنفسه باطلا لفقدان الشرط أم ليس شرطا حتّی لا يحدث في أدائها نقص فيكون صحيحا؟

و لم أر التعرّض لهذا الفرع في كلام القائلين بوجوب أدائها ابتداء إلی الإمام من القدماء و إنّما تعرّض له بعض من لا يری وجوب أدائها إلّا عند طلب الإمام، و قد مرّت عباراتهم، فالشيخ في الخلاف و المبسوط و المحقّق في الشرائع و العلّامة في المختلف و الشهيد في الدروس قالوا بعدم الإجزاء، و قد نقل القول بالإجزاء عن بعض في الشرائع و اختاره العلّامة في التذكرة و اكتفی بمجرّد نقل القولين من دون ترجيح لأحدهما في القواعد و توقّف في المنتهی و التحرير. و الحقّ هو القول بالإجزاء.

و تدلّ عليه الأخبار المتعدّدة الماضية من صحيح بريد و معتبر غياث بن إبراهيم و خبر نهج البلاغة و غيرها ممّا دلّ علی قبول قول المكلّف للعامل: انّي أدّيت زكاتي، فإنّها شاملة بالإطلاق لما إذا كان أداؤها بعد العلم بأنّ الإمام قد طلب أداءها إليه فتدلّ علی أنّه يقبل قوله و لا يراجع، و هو معنی صحّة أدائه للزكاة بنفسه هذا إذا لوحظ القول بعدم وجوب الأداء إلی الإمام إلّا بعد الطلب، و أمّا بناء علی القول الآخر الّذي قوّيناه فالواجب عليه ابتداء أيضا أداؤها إلی الإمام و هذه الروايات دلّت علی صحّة أدائه بنفسه قبل رجوع عامل الإمام و هو لا يكون إلّا إذا لم يكن أداؤها إلی الإمام شرطا في صحّة الزكاة.

و بالجملة: فهذه الروايات تدلّ علی صحّة أداء المكلّف لزكاته بنفسه إلی المصارف المقرّرة و لو بعد العلم بطلب الإمام علی أيّ من القولين، فالأداء إلی‏

                       

الإمام ليس شرطا في صحّة الزكاة.

و يمكن الاستدلال له أيضا بأنّ أدلّة ايجاب الزكاة إنّما تدلّ علی وجوب أداء الزكاة إلی مصارفها المعلومة، و قد اشترط أداؤها بنية القربة، و إطلاق أدلّة وجوبها يقتضي عدم اعتبار أيّ شرط فيها فمقتضاها صحّة أداء الزكاة إلی المصارف المقرّرة بنفسه.

و لا دليل علی تقييدها بأن تؤدّی إلی الإمام إلّا توهّم دلالة أدلّة ايجاب أدائها إلی الإمام و هي علی التحقيق لا تدلّ عليه.

و ذلك أنّ دليل وجوب الأداء إليه إن كان كونه من لوازم وجوب أخذها علی النبيّ أو الإمام بقوله تعالی: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها فأنت تعلم أنّ المدلول المطابقي للآية المباركة ليس إلّا أنّ علی وليّ الأمر أن يأخذ زكاة الناس فهو مجرّد وجوب عليه، و لازمه ليس أزيد من أنّه علی الناس المكلّفين بأداء الزكاة أن يقوموا بصدد تحقّق هذا المطلوب الإلهي و هو يدلّ علی نفس وجوب أداء الزكاة إلی وليّ الأمر، و أمّا أنّ أداءها إليه شرط لصحّة الزكاة فلا، و قد عرفت أنّ مقتضی إطلاق أدلّة وجوب الزكاة عدم اعتباره فيه.

و إن فرض الدليل علی وجوب أداء الزكاة إلی الإمام أنّه إذا طلب أداءها إليه وجب امتثال طلبه لوجوب إطاعة وليّ الأمر فأنت تعلم أنّ مثل قوله تعالی:

أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ غاية مدلوله أنّ امتثال أمر الرسول و اولي الأمر واجب، و قد مرّ سابقا أنّ وجوب إطاعة أمره مقتضی كونه وليّ الأمر عند العقلاء أيضا، إلّا أنّ هذه الأدلّة أيضا إنّما تدلّ علی وجوب إطاعة أمره بحيث لو عصاه لقد أثم، و أمّا أنّ وجوب إطاعته شرط لصحّة الأعمال فلا دلالة لها عليه، و قد عرفت أنّ مقتضی إطلاق أدلّة وجوب الزكاة عدم اشتراطه به.

بل لو شكّ في اقتضاء الإطلاق له- و لا مجال له- فمقتضی القاعدة هو إجراء البراءة عن احتمال اشتراط صحّة الزكاة بأدائها إلی وليّ الأمر حتّی عند طلبه لها.

فمقتضی الأدلّة هو الإجزاء إلّا أنّ الاحتياط أن تؤدّی إليه و لا يكتفی بما فرّقه بنفسه.

هذا تمام ما أوردنا من الكلام في زكاة الأموال.

                       

الرابع من الأموال الّتي بيد وليّ الأمر زكاة الفطرة

و ينبغي أنّ ننبّه هنا أيضا أنّ زكاة الفطرة أيضا مثل زكاة الأموال في أنّ لها مصارف مضبوطة كالفقراء و المساكين أو أنّ مصارفها نفس مصارف زكاة المال بعينها فليس المراد بكونها بيد وليّ الأمر أن تكون من أموال وليّ الأمر مثل الأنفال و نصف الخمس بل المراد أنّها يجب أن تؤدّی بيده حتّی تكون مصارفها في مصارفها المقرّرة بيده المباركة.

و لم يتعرّض لحكمها من هذه الجهة كلّ من مضی كلامهم في زكاة الأموال و إنّما تعرّض له بعضهم بشرح ما يلي:

 [أقوال الفقهاء في المسألة]

فأمّا القائلون بوجوب أداء زكاة الأموال إلی الإمام فقد عدّ أبو الصلاح الحلبي الفطرة في عداد ما وجب اخراجه إلی سلطان الإسلام. و أمّا القاضي ابن البرّاج فقد قال في المهذّب: و إذا كان الإمام عليه السّلام ظاهرا وجب علی من وجبت عليه الفطرة حملها إليه ليدفعها إلی مستحقّها، و لا يتولّی هو ذلك بنفسه، فإن لم يكن الإمام ظاهرا كان عليه حملها إلی فقهاء الشيعة ليضعها مواضعها لأنّهم أعرف بذلك «1». و دلالته علی وجوب دفع الفطرة أيضا إلی الإمام إذا كان ظاهرا واضحة.

                       

و أمّا الشيخ المفيد قدّس سرّه في المقنعة فلم يتعرّض لهذا الفرع في خصوص زكاة الفطرة إلّا أنّه لا يبعد دعوی شمول ما نقلنا عنه لزكاة الفطرة أيضا، و ذلك أنّ موضوع كلامه المذكور الزكاة و الباب باب وجوب إخراج الزكاة إلی الإمام و عنوان الزكاة عنوان عامّ شامل لزكاة المال و زكاة الفطرة، و يؤيّد إرادة هذا التعميم قوله في الباب السابق عليه ...: و لا يجوز إخراج الفطرة إلی غير أهل الإيمان لأنّها من مفروض الزكاة «1». فكون الفطرة من الزكاة المفروضة قد جعله دليلا علی عدم جواز إخراجها إلی غير أهل الإيمان، فالزكاة عنده عامّة لكلا النوعين، و هكذا يؤيّده أنّه بعد باب وجوب إخراج الزكاة إلی الإمام عقد بابا آخر بعنوان «باب من الزيادات في الزكاة» و أورد فيه أخبارا مرتبطة بزكاة المال و أخبارا اخر مرتبطة بزكاة الفطرة و هو شاهد آخر علی شمول عنوان الزكاة للفطرة أيضا 2.

فبالجملة: فالشيخ المفيد أيضا يری وجوب أداء الفطرة إلی الإمام.

و أمّا أبو المكارم ابن زهرة فقد فرّق في الغنية البحث عن زكاة الأموال و زكاة الرؤوس و ذكر في زكاة الأموال وجوب حملها إلی الإمام كما مرّ و لم يتعرّض لوجوب و لا استحباب أداء زكاة الرؤوس إلی الإمام في البحث عنها.

كما أنّ شيخ الطائفة قدّس سرّه القائل بوجوب حمل زكاة المال إلی الإمام في النهاية قال فيها في إخراج الفطرة: فإذا كان يوم الفطر فليخرجها و يسلّمها إلی مستحقّيها ... و ينبغي أن تحمل الفطرة إلی الإمام ليضعها حيث يراه، فإن لم يكن هناك إمام حملت إلی فقهاء شيعته ليفرّقوها في مواضعها، و إذا أراد الإنسان أن يتولّی ذلك بنفسه جاز له ذلك «3».

فهو كما تری قد صرّح بجواز أن يتولّی المكلّف بنفسه إخراج الفطرة إلی‏

                        

مستحقّها إلّا أنّه يستحبّ له حملها إلی الإمام.

هذا هو أقوال القائلين بوجوب أداء زكاة المال ابتداء إلی الإمام، فقال به في زكاة الفطرة أيضا المفيد و الحلبي و ابن البرّاج و لم يقل به الشيخ في نهايته و لا ابن زهرة في الغنية.

و أمّا القائلون باستحباب دفع زكاة المال ابتداء إلی الإمام فقد قال من تعرّض لهذا الفرع بالاستحباب في زكاة الفطرة أيضا:

و قد تقدّمت عبارة جمل العلم و العمل للسيّد المرتضی، و عبارة الشيخ في الخلاف، و هو قدّس سرّه لم يتعرّض في المبسوط عند البحث عن زكاة الفطرة استحباب حملها إلی الإمام أصلا، فهذا مفاد كلمات الأصحاب في اكتب الثلاثة.

و قال ابن حمزة في بحث زكاة الفطرة من الوسيلة: و الأولی أن يحملها إلی الإمام إن حضر و إلی الفقهاء إن لم يحضر ليضعوها مواضعها، و إن قام بنفسه جاز إذا علم مواضعها «1».

و قال ابن إدريس في السرائر: و ينبغي أن تحمل الفطرة إلی الإمام ليضعها في مواضعها حيث يراه، فإن لم يكن هناك إمام حملت إلی فقهاء شيعته ليفرّقوها في مواضعها فإنّهم أعرف بذلك، و إذا أراد الإنسان أن يتولّی ذلك بنفسه جاز له ذلك»

.

و قال المحقّق في الشرائع في مصرف الفطرة: و هو مصرف زكاة المال، و يجوز أن يتولّی المالك إخراجها و الأفضل دفعها إلی الإمام أو من نصبه و مع التعذّر إلی فقهاء الشيعة.

و قال أيضا في المختصر النافع في مصرف الفطرة: و هو مصرف زكاة المال و يجوز أن يتولّی المالك إخراجها، و صرفها إلی الإمام أو من نصبه أفضل، و مع التعذّر إلی فقهاء الإمامية.

و قال أيضا في المعتبر في زكاة الفطرة: مسألة: يجوز أن يتولّی المالك صرفها

                       

إلی المستحقّ و هو اتفاق العلماء لأنّها من الأموال الباطنة، و صرفها إلی الإمام أو من نصبه أولی، و مع التعذّر إلی فقهاء الإمامية فإنّهم أبصر بمواقعها ... «1».

و قال العلّامة في التذكرة: يجوز أن يتولّی المالك تفريق الفطرة بنفسه إجماعا، أمّا عندنا فظاهر، و أمّا عند المخالف فلأنّها من الأموال الباطنة. لكن يستحبّ صرفها إلی الإمام أو نائبه، لأنّه أعرف بمواقعها، فإن تعذّر صرف إلی الفقيه المأمون من فقهاء الإمامية لأنّهم أبصر بمواقعها و لأنّهم نوّاب الإمام عليه السّلام «2».

و قال أيضا في القواعد في زكاة الفطرة: و يتولّی التفريق المالك، و يستحبّ الإمام أو نائبه و مع الغيبة الفقيه «3».

و قال في المنتهی في زكاة الفطرة أيضا: و يجوز للمالك أن يفرّقها بنفسه بغير خلاف بين العلماء كافّة، أمّا عندنا فظاهر، و أمّا عند المخالف فلأنّها من الامور الباطنة، و يستحبّ صرفها إلی الإمام أو من نصبه، لأنّه الحاكم و هو أعرف بمواقعها و لما رواه الشيخ عن أبي عليّ ابن راشد قال: سألته عن الفطرة لمن هي؟ قال: للإمام ... «4».

و الشهيد في الدروس لم يتعرّض في البحث عن زكاة الفطرة لمندوبية أو وجوب أدائها إلی الإمام أصلا.

فهذه العبارات الّتي نقلناها واضحة الدلالة علی جواز صرف المكلّف بنفسه للفطرة الواجبة عليه في مصرفها و علی أنّ أداءها إلی الإمام أو من نصبه مندوب.

فلا ينبغي الريب في أنّ المشهور شهرة عظيمة أنّ أداء الفطرة إلی الإمام أو منصوبه مستحبّ و إنّما وجدنا القول بوجوب أدائها إلی الإمام من إطلاق كلام الشيخ المفيد و من نصّ كلام أبي الصلاح الحلبي و القاضي ابن البرّاج.

 [أدلّة المسألة]

و مع ذلك كلّه فالأقوی في النظر وجوب أدائها إلی الإمام، و يمكن الاستدلال لها بالكتاب و السنّة.

                       

أمّا الكتاب فبقوله تعالی: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها بيان الاستدلال أنّه تعالی أمر نبيّه بأخذ الصدقة من أموالهم و الأمر ظاهر في الوجوب و الصدقة المالية هي المال الّذي يعطی للّه تعالی، فغاية المطلب أن تكون منصرفة إلی ما وجب إعطاؤها، فزكاة الأموال و زكاة الفطرة كلتاهما صدقة مالية واجبة الأداء فإطلاق عنوان الصدقة في الآية المباركة يشملها فيكون أخذه للفطرة أيضا واجبا عليه، و قد مرّ أنّ الإمام أيضا يجب عليه ما وجب علی النبيّ صلّی اللّه عليه و آله.

و قد ورد إطلاق الصدقة علی زكاة الفطرة في روايات عديدة في كلام الأئمّة عليهم السّلام و كلام الأصحاب بحيث يعلم منها أنّ كون الفطرة أيضا صدقة أمر واضح في ألسنتهم و عندهم، و نحن نذكر انموذجا من القسمين:

1- ففي صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: صدقة الفطرة علی كلّ رأس من أهلك الصغير و الكبير و الحرّ و المملوك ... الحديث «1».

2- و في صحيح محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: الصدقة لمن لا يجد الحنطة و الشعير يجزي عنه القمح و العدس [و السلت‏] و الذرة نصف صاع من ذلك كلّه، أو صاع من تمر أو زبيب «2».

3- و في صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن رجل ينفق علی رجل ليس من عياله إلّا أنّه يتكلّف له نفقته و كسوته أ تكون عليه فطرته؟ فقال: لا، إنّما تكون فطرته علی عياله صدقة دونه ... الحديث «3».

4- و في صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سئل عن رجل يأخذ الزكاة عليه صدقة الفطرة؟ قال: لا «4».

                       

5- و في صحيح عبد اللّه بن ميمون عن أبي عبد اللّه عن أبيه عليهما السّلام قال: زكاة الفطرة صاع ... ليس علی من لا يجد ما يتصدّق به حرج «1».

6- و في موثّقة إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي إبراهيم عليه السّلام: علی الرجل المحتاج صدقة الفطرة؟ قال: ليس عليه فطرة 2.

7- و في صحيح زرارة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الفقير الّذي يتصدّق عليه هل عليه صدقة الفطرة؟ فقال عليه السّلام: نعم، يعطی ممّا يتصدّق به عليه «3».

إلی غير ذلك من أخبار كثيرة، فالآية المباركة بإطلاقها تدلّ علی وجوب أخذ وليّ الأمر لصدقة الفطرة أيضا.

فإن قلت: إلّا أنّ تطبيق عنوان آية الزكاة علی هذه الآية المباركة- في صحيح عبد اللّه بن سنان الماضي «4»- ثم بيان أنّ رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله أعملها في زكاة الأموال و لهذا بعد مضي حول وجّه عمال الصدقة لأخذ زكاة أموال الناس كلّ ذلك يدلّ علی أنّ الصدقة في الآية المباركة لا إطلاق لها بل إنّما تختصّ بزكاة الأموال.

قلت: إنّ المذكور في صدر الصحيح قوله عليه السّلام: «لمّا نزلت آية الزكاة خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها في شهر رمضان» فسمّی عليه السّلام هذه الآية آية الزكاة، فتدلّ علی أنّ المراد بالصدقة المذكورة فيها هي الزكاة، ثمّ ذكر بعده تطبيقها من ناحية الرسول الأعظم صلّی اللّه عليه و آله و سلّم علی زكاة الأموال و قيامه بأخذها، فغاية مدلوله أنّ الصدقة تنطبق علی زكاة الأموال و ليس فيه أيّة إشارة علی انحصارها بها بل الآية آية الزكاة و النبيّ مأمور بأخذ الزكاة و الزكاة كما تصدق علی زكاة الأموال فهكذا زكاة الفطرة أيضا زكاة كما ورد التعبير بها عنها في أخبار كثيرة نذكر نموذجا منها:

                       

1- ففي صحيحة زرارة و أبي بصير قالا: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إنّ من تمام الصوم إعطاء الزكاة- يعني الفطرة- كما أنّ الصلاة علی النبيّ صلّی اللّه عليه و آله من تمام الصلاة لأنّه من صام و لم يؤدّ الزكاة فلا صوم له إذا تركها متعمّدا و لا صلاة له إذا ترك الصلاة علی النبيّ صلّی اللّه عليه و آله، إنّ اللّه قد بدأ بها قبل الصوم [الصلاة] فقال: أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّی* وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّی «1». فتری إطلاقه عليه السّلام الزكاة بقول مطلق علی زكاة الفطرة و تفسيره لقوله تعالی تَزَكَّی بزكاة الفطرة.

2- و في موثّقة السكوني بإسناده- يعني عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام- أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال: من أدّی زكاة الفطرة تمّم اللّه بها ما نقص من زكاة ماله 2.

3- و في صحيح الفضيل بن يسار قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أعلی من قبل الزكاة زكاة؟ فقال: أمّا من قبل زكاة المال فإنّ عليه زكاة الفطرة، و ليس عليه لما قبله زكاة، و ليس علی من يقبل الفطرة فطرة «3».

إلی غير ذلك من أخبار عديدة. و بالجملة: فصدق الزكاة علی الفطرة أيضا واضح فلا مجال للشبهة في دلالة الآية المباركة علی المطلوب. ثمّ إنّ غاية مدلول الآية أنّ أخذ صدقة الفطرة من الناس واجب علی النبيّ و الإمام، و قد مرّ استلزامه لوجوب أداء الامّة فطرتهم إلی وليّ الأمر حتّی يتحقّق ما أوجبه اللّه تعالی مضافا إلی أنّه بعد وجوب أخذها فلا محالة وليّ الأمر يقوم بصدد امتثال تكليفه و يطلب من الناس أداء زكاة فطرتهم إليه فيجب عليهم الأداء لوجوب إطاعة وليّ الأمر علی الامّة في أوامره. فالآية الشريفة بهذا البيان تامّة الدلالة علی جميع المطلوب.

و أمّا السنّة فيدلّ علی المطلوب صحيحة أبي عليّ ابن راشد- المروية في الكافي و التهذيب و المقنعة- قال: سألته عن الفطرة لمن هي؟ قال:

للإمام، قال: قلت: فأخبر أصحابي؟ قال: نعم من أردت أن تطهّره منهم،

                       

و قال: لا بأس بأن تعطی و تحمل ثمن ذلك ورقا «1».

و سند الحديث في غاية الاعتبار فإنّ أبا عليّ ابن راشد من عظماء الأصحاب و كان في غاية الجلالة و الاعتماد و كان وكيلا للإمام أبي الحسن الهادي عليه السّلام جعله في غاية التكريم له مكان نائبه العظيم حسين بن عبد ربّه، فالضمير في قوله:

 «سألته» راجع إلی الإمام الهادي عليه السّلام و لا يتوهّم له إضمار، و قوله عليه السّلام في جواب سؤاله الثاني: «نعم من أردت أن تطهّره منهم» دليل علی أنّه من الإمام و فيه إشارة إلی قوله تعالی: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها فأفاد عليه السّلام أنّ زكاة الفطرة أيضا صدقة قد أمرنا اللّه بأخذها، و أدائها إلينا تطهير للأمّة، فالصحيحة شاهدة أيضا علی صحّة ما قلناه في ذيل الآية الشريفة.

و كيف كان، فقد حكم الإمام عليه السّلام بأنّ الفطرة للإمام و لو كنّا و نفس الصحيحة لقلنا بأنّها من الأموال الّتي جعلها اللّه لوليّ الأمر كالأنفال و نصف الخمس إلّا أنّه لمّا كان مصرف الفطرة مصرف زكاة المال أو خصوص الفقراء و المساكين فلا محالة يراد منه أنّها بمنزلة ماله عليه السّلام فيجب أن يؤدّی إليه و هو المطلوب.

و لا تنافي هذه الصحيحة و لا الآية المباركة الأخبار الكثيرة الدالّة علی تجويز أن يعطي المكلّف نفسه زكاة فطرته للفقراء و المساكين و ذلك لما مرّ في زكاة الأموال من أنّ هذا الوجوب إنّما هو إذا تصدّی الإمام عليه السّلام لإدارة امور المسلمين و كان خارجا وليّ أمرهم بالفعل، و هذه التجويزات إنّما كانت في زمن غصب مقامهم بيد الطواغيت الغاصبين، فتذكّر.

و قد يستدلّ لوجوب إعطاء الفطرة للإمام بمعتبر الفضيل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان جدّي عليه السّلام يعطي فطرته الضعفة [الضعفاء] و من لا يجد و من لا يتولّی، قال:

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: هي لأهلها إلّا أن لا تجدهم، فإن لم تجدهم فلمن لا ينصب،

                        

و لا تنقل من أرض إلی أرض، و قال: الإمام يضعها حيث يشاء و يصنع فيها ما رأی «1».

و موضع الاستدلال هي الفقرة الأخيرة فإنّه عليه السّلام و إن حكی إعطاء جدّه و هو زين العابدين عليه السّلام لفطرته و ظاهره الفطرة المتعلّقة بشخصه الواجب أداؤها عليه فلا إطلاق لها، إلّا أنّه عليه السّلام قد تعرّض بعده لحكم الفطرة مطلقة، فحكم بأنّها لأهلها و بأنّها لا تنقل إلی أرض اخری، ثمّ زاد بأنّ الإمام يضعها حيث يشاء، فالضمير فيه يرجع إلی مطلق الفطرة، و يدلّ علی أنّ من شأن الفطرة أن تضع في يد الإمام عليه السّلام ثمّ هو يضعها حيث يشاء و يصنع فيها ما يری، و هو عبارة اخری عن وجوب إعطاء الفطرة للإمام عليه السّلام.

لكنّك خبير بأنّ غاية مدلوله أنّ الفطرة تقع في يد الإمام عليه السّلام فإعطاء الفطرة له واقع في محلّه، أمّا وجوب إعطائها له عليه السّلام فالحديث قاصر الدلالة عنه، بل لا بدّ أن يعدّ الحديث في عداد الأخبار الدالّة علی جواز أن يجعل الفطرة في يد الإمام عليه السّلام ليفعل بها ما هو حكمها الشرعي و يصرفها في مصرفها. و هي غير هذه المعتبرة خبران آخران:

أحدهما: صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع قال: بعثت إلی الرضا عليه السّلام بدنانير من قبل بعض أهلي و كتبت إليه اخبره أنّ فيها زكاة خمسة و سبعين و الباقي صلة، فكتب بخطّه: قبضت. و بعثت إليه بدنانير لي و لغيري و كتبت إليه: إنّها فطرة من العيال، فكتب بخطّه: قبضت «2». و روی ذيله عن الفقيه مثله، و روی الذيل أيضا الكليني إلّا أنّه قال: قبضت و قبلت «3».

فسند الحديث في التهذيب و من لا يحضره الفقيه صحيح، و في سند الكافي بنان بن محمّد المجهول و أخوه عبد الرحمن و هو غير مذكور.

                       

و الصحيحة كما تری تدلّ علی أنّ الإمام عليه السّلام كان يأخذ زكاة الفطرة، و قوله عليه السّلام في نسخة الكافي: «قبلت» فيه دلالة علی أنّ له شأنا إلهيّا في قبولها و هو مشير إلی أنّ أخذ الفطرة إليه.

ثانيهما: صحيحة أيّوب بن نوح بن درّاج- الّذي كان ثقة شديد الورع كثير العبادة و كان وكيلا لأبي الحسن الهادي و أبي محمّد العسكري عليهما السّلام- قال: كتبت إلی أبي الحسن الثالث عليه السّلام: إنّ قوما سألوني [يسألوني- يب‏] عن الفطرة و يسألوني أن يحملوا قيمتها إليك و قد بعث إليك هذا الرجل عام أوّل و سألني أن أسألك فنسيت ذلك، و قد بعثت إليك العام عن كلّ رأس من عيالي [و قد بعث إليك العام عن كلّ رأس من عياله- يب‏] بدرهم علی [عن- يب‏] قيمة تسعة أرطال [تمر- يب‏] بدرهم، فرأيك جعلني اللّه فداك في ذلك؟ فكتب عليه السّلام: الفطرة قد كثر السؤال عنها، و أنا أكره كلّ ما أدّی إلی الشهرة، فاقطعوا ذكر ذلك، و [فريب‏] اقبض ممّن دفع لها و امسك عمّن لم يدفع «1».

و هذه الصحيحة قد رواها الكليني في الكافي و نقلها عنه الشيخ في التهذيب و قد نقلتها عنهما مع ضبط اختلاف النسختين، و قد نقلها الشيخ في ذيل العبارة الماضية عن مقنعة المفيد: «باب وجوب إخراج الزكاة إلی الإمام ... إلی آخر ما قدّمناه» «2» و في نقله لها ذيله شهادة علی أنّ الشيخ أيضا قد فهم من الباب المزبور تعميم الزكاة للفطرة أيضا، و قد ذكر أيضا هنا صحيح ابن راشد و ذيل خبر ابن بزيع الماضي و هما أيضا في زكاة الفطرة. و كيف كان، فصاحب الوسائل أيضا قد أخرج الصحيحة عن الكافي و التهذيب كليهما.

و دلالة الصحيحة علی أنّ الإمام عليه السّلام كان يأخذ الفطرة واضحة، فإنّ أيّوب بن نوح كان وكيلا له، و قد أمره في ذيل الصحيحة بأخذها بقوله: «اقبض ممّن دفع لها»

                       

فأخذ وكيله أخذه عليه السّلام و أمره بالأخذ من خصوص من يدفع بنفسه و بالإمساك عمّن لم يدفع إنّما هو لما أفاده قبله من قوله عليه السّلام: «الفطرة قد كثر السؤال عنها و أنا أكره كلّ ما أدّی إلی الشهرة فاقطعوا ذكر ذلك». و حاصله: أنّ اتضاح الأمر لدی عامّة الناس و وصوله إلی الدولة الجائرة يوجب ضيقا عليه أو علی الشيعة أكثر فلذلك فلا مجال معه لدعوة الشيعة إلی دفعها إلی الإمام أو وكيله بل اللازم أن يقطع ذكرها و تقبض ممن دفعها بنفسه و يمسك عمّن لم يدفع، فلا يتوهّم أنّ في الصحيحة دلالة أو إشارة إلی عدم وجوب أدائها إلی الإمام. هذا مضافا إلی أنّ دعوانا وجوب أداء الفطرة إلی الإمام إذا قام خارجا بتدبير أمر الامّة و تصدّی لأعمال الولاية.

فهذه الروايات الثلاث المعتبرات تدلّ بوضوح علی أنّ الأئمّة عليهم السّلام كانوا يأخذون زكاة الفطرة، و نفس أخذهم لها و إن لم يدلّ علی وجوب أدائها إليهم إلّا أنّه دليل علی جوازه، و حينئذ فإذا كانوا أنفسهم أولياء أمر الامّة فلهم- إذا رأوا فيه الصلاح- أن يأمروا الناس بدفع الفطرة إليهم عليهم السّلام و يصير دفعها إليهم واجبا امتثالا لأمرهم الواجب الاطاعة.

ثمّ انّك بالتأمّل فيما بيّنّاه في زكاة الأموال تعرف أنّ أداء الفطرة إلی الإمام عليه السّلام و إن كان واجبا إلّا أنّه لا دليل علی أزيد من وجوبه، و أمّا كون الأداء إليه شرط الصحّة فلا دليل عليه بل إطلاقات أدلّة وجوب الفطرة و صرفها في مصرفها الخاصّ بها تقتضي عدم الاشتراط. مضافا إلی اقتضاء البراءة أيضا له.

و أمّا قبول قول المكلّف إذا طلب الإمام أداءها إليه بل مطلقا فقبول قوله إذا ادّعی عدم تعلّق وجوب الفطرة به أو ادّعی أداءها بنفسه فلا دليل خاصّ معتبر هنا، و قد عرفت أنّ مقتضی الأصل أيضا عدم الوجوب و أنّ الاستصحاب يقتضي اشتغال ذمّته بها. نعم إنّ مرسلة الدعائم الماضية عن النبيّ صلّی اللّه عليه و آله أنّه نهی عن أن يحلف الناس علی صدقاتهم قال: «هم فيها مأمونون» «1» تعمّ صدقة الفطرة أيضا، إلّا أنّها غير معتبرة السند.

                       

الخامس من الأموال الّتي بيد وليّ الأمر عوائد الموقوفات العامّة الّتي لا متولّي لها

و توضيح الأمر أنّ الوقف إنّما هو حبس العين و تسبيل الانتفاع بها أو عوائدها، فإن كان الوقف علی أشخاص خاصّة فلا محالة تكون العين الموقوفة مختصّة بهم فهم أنفسهم يتولّون أمرها إذا لم يعيّن الواقف لها متولّيا و إذا عيّن لها متولّيا فالمتولّي يتصدّی أمرها بمقتضی وظيفة التولية، و أمّا إذا كان الوقف علی جهة عامّة كوقف عقار أو بستان لأن ينفق عوائده في سبل الخير أو في تعزية المعصومين عليهم السّلام أو في مصالح المساجد أو مسجد خاصّ فإن جعل لوقفه هذا متولّيا فأمر رعاية العين الموقوفة و أخذ عوائدها و إنفاقها حسب ما جعله الواقف علی عهدة المتولّي، و أمّا إن لم يجعل لمثل هذا الوقف متولّيا أو مات متولّيه أو خرج عن صلاحية التولّي فأمر هذه الموقوفة بيد وليّ الأمر.

و ممّا بيّنّا تعرف أن ليس المراد من كون أمرها بيده أنّ عوائدها أو منافعها ملك لشخص وليّ الأمر كما في الأنفال و نصف الخمس بل إنّ عوائدها لا بدّ و أن تنفق في نفس الموارد الّتي وقف الواقف العين الموقوفة لها إلّا أنّ أمر هذه الموقوفة كلّه بيد وليّ الأمر، فمثلا هو الّذي يؤجرها من شاء باجرة يراها مناسبة و يأخذ اجرتها و يعيّن شخص المصرف الّذي تصرف العوائد فيها فربما تصرف عوائد الموقوفة لسبل الخير في بناء جسر أو إنشاء شارع داخل بلدة أو خارجها أو في إرسال جند إلی الجهاد أو الدفاع، فكلّ هذه المصاريف تعيينها بيد وليّ الأمر، و لا نعني لزوم مباشرته‏

                       

بنفسه لأداء هذه الامور بل هو المرجع الأصيل فربّما يوكله إلی نائب صالح.

و كون أمر عوائد هذه الأوقاف- بالشرح المذكور- بيده لم أقف علی تعرّض الأصحاب له في كتاب الوقف و لا في مورد آخر إلّا أنّه لا ينبغي الريب في إفتائهم به، كيف لا! و من الامور الدارجة في ألسن الفقهاء أنّ الامور الحسبيّة بمعنی امور يعلم أنّ الشارع المقدّس لا يرضی بإهمالها أبدا كتولّي أمر الأيتام و تصدّي أمر الموقوفات إذا لم يكن لليتيم قيّم و لا للموقوفة متولّ فهذه الامور بيد الفقيه العادل، و هو لا يكون إلّا لأنّ أمر هذه الامور بيد الإمام عليه السّلام و إنّما تصير إلی الفقيه لأنّه نائب عامّ عنه في غيبته و هو ما ذكرناه.

قال سيّدنا الاستاذ الإمام الراحل قدّس سرّه عند البحث عن اشتراط كون العوضين في البيع ملكا طلقا: فالخانات و المدارس و غيرهما ممّا جعلت لمصالح طائفة من المسلمين و كذا الأوقاف علی الجهات أو علی العناوين العامّة كالفقراء أو عامّة المسلمين إذا آل أمرها إلی الخراب فللوالي أو عليه حفظ منافعهم فيها و عدم إهمالها، فله أو عليه أن يبيعها أو يستبدلها ... لأنّ الأوقاف لم تخرج عن الوقفية، فإذا كانت وقفا علی المسلمين و آل أمرها إلی الاضمحلال و التضييع فللوالي أو عليه- مع بسط يده أن يستبدلهما بما ينتفع به المسلمون كانتفاعهم بالأعيان الموقوفة، فلو خرّبت مدرسة أو خان يبيعهما و يشتري مكانهما مكانا آخر يجعله مدرسة أو خانا حفظا للمصالح العامّة «1».

و هذا الّذي أفاده من أنّ أمر الموقوفات العامّة بيد الوالي هو ما ذكرناه من أنّه إذا لم يكن للوقف العامّ الّذي له عوائد متولّ خاصّ فأمره إلی الإمام و تولّي أمره من اختياراته و وظيفته المراقبة عنه و أخذ عوائده و صرفها في مصارفها الّتي جعلها الواقف مصرفا لها. إلّا أنّ سيّدنا الاستاذ قدّس سرّه لم يخصّ ولايته بخصوص الوقف الّذي له عوائد بل أفاد أنّ كلّ ما جعلت من الموقوفات لمصالح المسلمين ممّا ينتفعون بها كالخانات و المدارس و إن لم تكن لها عائدة تصرف في مصالحهم‏

                       

فهي أيضا بيد وليّ الأمر و هو الحقّ المطابق للتحقيق.

و عمدة الدليل علی هذه الدعوی أنّ أولياء أمر المسلمين قد جعلهم اللّه تعالی أولی بالمؤمنين من أنفسهم و هم بإذن اللّه تعالی و جعله وليّ أمر الامّة بل قد عرفت ممّا أنّهم بأمر اللّه تعالی و جعله وليّ أمر كلّ من يعيش في لواء الدولة الإسلامية و إن كان غير مسلم كأهل الكتاب الّذين هم في ذمّة الإسلام، و لازم كونهم وليّ أمر الامّة أن يكون بيدهم كلّ ما يرجع إلی الامّة بمعنی أنّ ما يرجع إلی الامّة فإليهم اختياره و عليهم أن يقوموا بما يرتبط به، فولايتهم علی الامّة تستتبع حدوث اختيار خاصّ بهم و تعلّق وظيفة عليهم و إلّا لم تتحقّق ولايتهم، فليس لغيرهم من آحاد الناس هذا الخيار و ليس لهم إهمال ما يتعلّق بالامّة، و لازم ولايتهم أيضا أن يكون كلّ ما يغرمون في هذه الموارد لازم الاتباع، كلّ هذه الجهات إنّما هي لأنّها لازم الولاية المطلقة علی الامّة. و قد ذكرناها فيما سبق و ذكرنا أنّ ولاية أمر الامم في الدنيا و إن لم تكن مستندة إلی جعل اللّه تبارك و تعالی فنفس الولاية عليهم تقتضي أن يكون بيد وليّ الأمر كلّ ما يرتبط بالامّة فله الخيار و عليه الاهتمام و تصميماته متّبعة، فهكذا الأمر في الولاية علی الامّة إذا كانت بإذن اللّه تعالی و نصبه و جعله.

و هذا الوجه وجه قويّ تامّ و كما أشرنا إليه لم نجد دليلا خاصّا علی المطلوب في الروايات إلّا أنّه قد وردت أخبار متعدّدة في مساجد المسلمين الّتي قد عرفت أنّها أيضا متّحدة الحكم مع الموقوفات ذوات العوائد، فقد وردت فيها روايات ربما تدلّ علی أنّ أمرها يكون إلی وليّ أمر الامّة.

1- فمن هذه الروايات ما رواه الكليني و الشيخ بسند صحيح عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سمعته يقول: إنّ رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله بنی مسجده بالسميط ثمّ إنّ المسلمين كثروا فقالوا: يا رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله لو أمرت بالمسجد فزيد فيه، فقال: نعم، فأمر به فزيد فيه و بناه بالسعيدة، ثمّ إنّ المسلمين كثروا فقالوا: يا رسول اللّه لو أمرت بالمسجد فزيد فيه، فقال: نعم، فأمر به فزيد فيه و بنی جداره بالانثی و الذكر، ثمّ اشتدّ عليهم الحرّ فقالوا: يا رسول اللّه لو أمرت بالمسجد فظلّل،

                       

فقال: نعم، فأمر به فاقيمت فيه سواري من جذوع النخل، ثمّ طرحت عليه العوارض و الخصف و الإذخر، فعاشوا فيه حتّی أصابتهم الأمطار فجعل المسجد يكف عليهم، فقالوا: يا رسول اللّه لو أمرت بالمسجد فطيّن، فقال لهم رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله:

لا، عريش كعريش موسی عليه السّلام، فلم يزل كذلك حتّی قبض رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله، و كان [فكان- يب‏] جداره قبل أن يظلّل قامة، فكان إذا كان الفي‏ء ذراعا و هو قدر مربض عنز صلّی الظهر، و إذا [فإذا- يب‏] كان ضعف ذلك صلّی العصر، و قال:

السميط: لبنة لبنة، و السعيدة لبنة و نصف، و الذكر و الانثی [و الانثی و الذكر- يب‏] لبنتان مخالفتان «1». و رواه الوسائل عنهما، و عن الصدوق في معاني الأخبار بسند صحيح أيضا قال: «إلّا أنّه ترك قوله: و بناه بالسعيدة فزيد فيه» «2».

فهذه الصحيحة كما تری قد تضمّنت أنّ أمر ازدياد سطح المسجد النبوي و أمر تظليله كان بيد النبيّ الأكرم صلّی اللّه عليه و آله فإذا وافق و أمر بزيادته زيد فيه، و إذا ضمّ هذا المعنی إلی أنّ أمر تطيينه أيضا كان بيده و لذلك فإذا لم يوافق علی تطيينه و أجابهم بقوله: «لا، عريش كعريش موسی عليه السّلام بقي بلا تطيين كما أفاده عليه السّلام في قوله: «فلم يزل كذلك حتّی قبض رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله» فهم منه أنّ أمر تغيير سطح المسجد و سائر ما يرتبط به كان موكولا إليه يزاد فيه و يظلّل إذا شاء و لا يطيّن إذا لم يشأ، و هذا هو الّذي نقوله من أنّ أمر مثل المسجد بيد وليّ الأمر.

2- و منها ما رواه الكليني و الشيخ قدّس سرّهما بسند صحيح عن الحلبي قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام [سألته- يب‏] عن المساجد المظلّلة يكره الصلاة [القيام. يب‏] فيها؟

قال: نعم، و لكن لا يضرّكم فيها [الصلاة فيها- يب‏] اليوم، و لو قد كان العدل لرأيتم [أنتم- يب‏] كيف يصنع في ذلك ... الحديث «3».

                       

فقوله عليه السّلام في الذيل: «و لو قد كان العدل لرأيتم كيف يصنع في ذلك» إشارة إلی زمن الولاية الإسلامية المحقّة، و يدلّ علی أنّ أمر المساجد في زمن هذه الولاية يكون إلی وليّ الأمر فيجعلها كما ينبغي أن تكون، و هو ما نريد.

3- و منها ما رواه الكليني و الشيخ قدّس سرّهما عن عمرو بن جميع قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام [أبا عبد اللّه- يب، ئل‏] عن الصلاة في المساجد المصوّرة، فقال: أكره ذلك، و لكن لا يضرّكم ذلك اليوم، و لو قد قام العدل رأيتم [لرأيتم. يب‏] كيف يصنع في ذلك «1».

و هو في الدلالة مثل ما سبقه من صحيح الحلبي. إلّا أنّ سنده ضعيف بضعف عمرو بن جميع و جهالة جمع آخر في السند.

4- و منها ما عن إرشاد المفيد عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث قال: إذا قام القائم لم يبق مسجد علی وجه الأرض له شرف إلّا هدمها «2».

دلّ الحديث علی أنّ القائم عليه السّلام و هو وليّ الأمر يهدم شرف المساجد الّتي لها شرف، و شرف جمع شرفة، و شرفة القصر ما أشرف من بنائه، فإذا كان هو عليه السّلام يهدم شرف المساجد فلا محالة يكون مراقبا للمساجد حتّی تكون علی ما ينبغي، و هو ما ندّعيه. إلّا أنّ سند المفيد إلی أبي بصير غير معلوم، فالحديث لا يخلو من مثل إرسال.

5- و منها موثّقة السكوني المروية عن التهذيب و من لا يحضره الفقيه عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام أنّ عليّا عليه السّلام مرّ علی منارة طويلة فأمر بهدمها ثمّ قال: لا ترفع المنارة إلّا مع سطح المسجد «3».

                       

و هي دالّة علی مراقبته عليه السّلام لوضع المساجد و هدمه لما لا ينبغي أن تكون عليه، و الظاهر أنّه في زمن قيامه خارجا بولاية أمر الامّة، ففيه دلالة علی المطلوب.

6- و منها ما عن التهذيب و علل الشرائع في المعتبر عن طلحة بن زيد عن جعفر عن أبيه عن عليّ عليهم السّلام: أنّه كان يكسر المحاريب إذا رآها في المساجد و يقول: كأنّها مذابح اليهود «1».

و هو في الدلالة مثل الموثّقة السابقة.

فهذه روايات معتبرة الاسناد إلّا واحدة منها قد دلّت بما عرفت من البيان علی أنّ المسجد لا بدّ و أن يكون تحت اختيار وليّ الأمر.

إلّا أنّ لقائل أن يقول: إنّ هذه الروايات- غير صحيح عبد اللّه بن سنان- إنّما تدلّ علی أنّ وليّ الأمر يهدم ما كان في المساجد علی غير الجهة المطلوبة في الشريعة، فأمير المؤمنين عليه السّلام كان كذلك و القائم عليه السّلام هكذا يفعل، و إذا كانت الولاية الحقّة العادلة فهكذا يكون الأمر فهذا المقدار يفعله وليّ الأمر و الولاية الحقّة، و أمّا أنّ أمر المسجد بالمرّة بيد وليّ الأمر فلا دلالة في هذه الأخبار عليه.

و أمّا صحيحة عبد اللّه بن سنان فغاية مقتضاها أنّ أمر مسجد النبيّ كان بيده المباركة يزاد فيه و يظلّل إذا أراده و لا يطيّن إذا لم يرده، و أمّا أنّ هذه الكيفيّة تكون هي المطلوبة بتّا في الشريعة في نفس ذاك المسجد بل في جميع المساجد فلا نسلّم دلالة الصحيحة عليه.

و بالجملة: فهذه الروايات لا تتمّ دلالتها علی المطلوب فليكتف بما قدّمناه من اقتضاء القواعد.

ثمّ إنّه يمكن أن يستدلّ لأصل المطلب من وجوب أن تكون الأوقاف العامّة الّتي لا متولّي لها لا سيّما ما كان منها ذا عائدة بيد وليّ الأمر بأنّ المستفاد من‏

                       

أخبار كثيرة معتبرة أنّ العين الموقوفة صدقة، و حينئذ فتدخل الأعيان الموقوفة في إطلاق قوله تعالی: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً فيجب أخذها علی وليّ الأمر، و قد مرّ أنّ لازم وجوب أخذها عليه أن يجب علی الناس أيضا أداؤها إليه.

لكنّك قد عرفت انصراف الصدقة المذكورة في الآية الشريفة إلی ما يجب أن يتصدّق بها مثل زكاة المال و الفطرة، فلا تعمّ مثل العين الموقوفة الّتي ليست بنفسها صدقة و إنّما تصير بالوقف صدقة، و كيف كان فليست صدقة واجبة فلا تعمّها الآية المباركة، و اللّه العالم.

و بهذا المقدار نكتفي في البحث عن الأموال الّتي لوليّ الأمر سواء كانت ملكا له كما في الأنفال و نصف الخمس أم جعلها اللّه تعالی لمصارف خاصّة و جعل مع ذلك أمرها بيده كما في النصف الآخر من الخمس و زكاة الأموال و الفطرة و كما في الأوقاف العامّة علی ما عرفت من الكلام فيها، فهذا هو القسم الأوّل من قسمي المنابع المالية للدولة و الولاية الإسلامية.

                       

 [البحث عن الأموال الّتي للمسلمين‏]

و أمّا القسم الثاني منها و هو ما كان ملكا للأمّة الإسلامية فهو أيضا امور عديدة:

الأمر الأول الأراضي المفتوحة عنوة

و المراد منها أنّ وليّ الأمر إذا دعا المسلمين إلی جهاد أعداء الإسلام فجاهدهم المسلمون و قاتلوهم إلی أن ظفروا بهم فما كان من الأموال المنقولة الّتي حواها عسكر العدوّ فبعد إخراج خمسها و ما كان منها من الأنفال يقسّم الباقي بين المقاتلين، و لا كلام لنا الآن فيها، و أمّا الأراضي الّتي كانت بأيدي الأعداء و استولی عليها الإسلام بهذا الجهاد فهذه الأراضي و هكذا دورهم و بيوت تجارتهم و كسبهم فهذه كلّها قد فتحها المسلمون بالقتال و تكون مفتوحة بالسيف، فهذا هو المراد بالأراضي المفتوحة عنوة و تكون كلّها لأمّة الإسلام.

و العنوة- بفتح العين- ما أخذ عن خضوع و تذلّل، قال اللّه تعالی: وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ: أي خضعت و ذلّت، فهذه الأراضي حيث تؤخذ من أيدي الكفّار بعد ما ذلّوا بغلبة جند الإسلام عليهم فقد فتحت و اخذت عنوة، فلذلك يطلق عليها المفتوحة عنوة.

 [نقل كلمات الفقهاء في المسألة]

و بعد ذلك فاللازم أوّلا نقل كلمات أصحابنا الأخيار ثمّ البحث عن مقتضی‏

                       

أدلّة المسألة، فنقول:

1- قال الشيخ المفيد قدّس سرّه في المقنعة: و كلّ أرض أسلم أهلها طوعا تركت في أيديهم ... و كلّ أرض اخذت بالسيف فللإمام تقبيلها ممّن يری من أهلها و غيرهم، و ليس يجب قسمتها بين الجيش و يقبّلها الإمام بما يراه صلاحا و يطيقه المتقبّل من النصف و الثلث و الثلثين «1».

فقوله قدّس سرّه: «و كلّ أرض اخذت بالسيف» حيث وصف الأرض المذكورة بأنّها اخذت فلا محالة تكون الأرض مأخوذة من يد الكفّار واقعة في يد المسلمين فتكون ملكا لهم، و ما يؤخذ من المتقبّل لها من النصف أو الثلث و الثلثين يكون من عوائد الأرض و ملكا للمسلمين بيد الإمام الّذي هو وليّ أمرهم. و بالجملة: فهو قدّس سرّه و إن لم يصرّح بأنّها ملك المسلمين إلّا أنّه يكون إليه ماله بشرح ما عرفت.

2- و قد تعرّض لهذه الأرض شيخ الطائفة قدّس سرّه في كتبه:

ألف: فقال في باب أحكام الأرضين من زكاة النهاية: الأرضون علی أربعة أقسام: ضرب منها يسلم أهلها عليها طوعا من قبل نفوسهم من غير قتال، فتترك في أيديهم، و يؤخذ منهم العشر أو نصف العشر و كانت ملكا لهم ....

و الضرب الآخر من الأرضين ما اخذ عنوة بالسيف، فإنّها تكون للمسلمين بأجمعهم، و كان علی الإمام أن يقبّلها لمن يقوم بعمارتها بما يراه من النصف أو الثلث أو الربع، و كان علی المتقبّل إخراج ما قد قبل به من حقّ الرقبة و فيما يبقی في يده و خاصّة العشر أو نصف العشر، و هذا الضرب من الأرضين لا يصحّ التصرّف فيه بالبيع و الشراء و التملّك و الوقف و الصدقات، و للإمام أن ينقله من متقبّل إلی غيره عند انقضاء مدّة ضمانه، و له التصرّف فيه بحسب ما يراه من مصلحة المسلمين. و هذه الأرضون للمسلمين قاطبة، و ارتفاعها يقسّم فيهم كلّهم، المقاتلة و غيرهم، فإنّ المقاتلة ليس لهم علی جهة الخصوص إلّا ما تحويه العسكر من الغنائم.

                       

ثمّ ذكر أرض الصلح أو الجزية و أرض الأنفال قسمين ثالثا و رابعا، فراجع «1».

فقد صرّح بأنّ الأرض المأخوذة عنوة ملك لجميع المسلمين بيد الإمام و أنّ منافعها للمسلمين قاطبة، و أنّها لا يصحّ بيعها و لا إيقاع التصرّفات المخرجة لها عن ملكهم عليها.

و قال أيضا في باب بيع المياه و المراعي من متاجر النهاية: و الأرضون علی أقسام أربعة: قسم منها أرض الخراج، و هي كلّ أرض اخذت عنوة بالسيف و عن قتال، فهي أرض للمسلمين قاطبة لا يجوز بيعها و لا شراؤها و التصرّف فيها بإذن الناظر في أمر المسلمين، و للناظر أن يقبّلها بما شاء من ثلث أو ربع أو نصف أو أقلّ أو أكثر مدّة من الزمان، و له أن ينقل من متقبّل إلی غيره و يزيد عليه و ينقص إذا مضی مدّة زمان القبالة، ليس عليه اعتراض في ذلك.

ثمّ ذكر أرض الصلح أو الجزية و أرض من أسلم أهلها عليها طوعا و أرض الأنفال، و ذكر حكم كلّ قسم منها، فراجع «2».

فهنا أيضا صرّح بأنّ الأرض المأخوذة بالسيف الّتي عبّر عنها بأرض الخراج للمسلمين قاطبة و أنّها لا يجوز بيعها و لا شراؤها و أنّها بيد الناظر في أمر المسلمين الّذي هو الإمام أو المنصوب من قبله، و لا محالة يكون منافعها و خراجها لمالكها أعني المسلمين.

ب: و قال في كتاب الزكاة من المبسوط: فصل في حكم أراضي الزكاة و غيرها.

الأرضون علی أربعة أقسام حسب ما ذكرناه في النهاية: فضرب منها ... ثمّ ذكر مثل ما أفاده في كتاب الزكاة من النهاية، و لا نری حاجة بذكرها «3».

و قال في كتاب الجهاد من المبسوط: فصل في ذكر مكّة هل فتحت عنوة أو صلحا؟ و حكم السواد و باقي الأرضين. ظاهر المذهب أنّ النبيّ صلّی اللّه عليه و آله فتح مكّة

                       

عنوة بالسيف ثمّ آمنهم بعد ذلك، و إنّما لم يقسّم الأرضين و الدور لأنّها لجميع المسلمين كما نقوله في كلّ ما يفتح عنوة إذا لم يمكن نقله إلی بلد الإسلام، فإنّه يكون للمسلمين قاطبة، و منّ النبيّ صلّی اللّه عليه و آله علی رجال من المشركين فأطلقهم، و عندنا أنّ للإمام أن يفعل ذلك، و كذلك أموالهم منّ عليهم بها لما رآه من المصلحة.

و أمّا أرض السواد فهي الأرض المغنومة من الفرس الّتي فتحها عمر، و هي سواد العراق ... و الّذي يقتضيه المذهب أنّ هذه الأراضي و غيرها من البلاد الّتي فتحت عنوة أن يكون خمسها لأهل الخمس، فأربعة أخماسها تكون للمسلمين قاطبة، للغانمين و غير الغانمين في ذلك سواء، و يكون للإمام النظر فيها و تقبيلها و تضمينها بما شاء، و يأخذ ارتفاعها و يصرفه في مصالح المسلمين و ما ينوبهم من سدّ الثغور و معونة المجاهدين و بناء القناطر و غير ذلك من المصالح، و ليس للغانمين في هذه الأرضين خصوصا شي‏ء، بل هم و المسلمون فيه سواء. و لا يصحّ بيع شي‏ء من هذه الأرضين و لا هبته و لا معاوضته و لا تمليكه و لا وقفه و لا رهنه و لا إجارته و لا إرثه، و لا يصحّ أن يبنی دور أو منازل و مساجد و سقايا و لا غير ذلك من أنواع التصرّف الّذي يتبع الملك، و متی فعل شي‏ء من ذلك كان التصرّف باطلا و هو باق علی الأصل.

و علی الرواية الّتي رواها أصحابنا أنّ كلّ عسكر أو فرقة غزت بغير أمر الإمام فغنمت يكون الغنيمة للإمام خاصّة هذه الأرضون و غيرها ممّا فتحت بعد الرسول صلّی اللّه عليه و آله إلّا ما فتح في أيّام أمير المؤمنين عليه السّلام- إن صحّ شي‏ء من ذلك- يكون للإمام خاصّة و تكون من جملة الأنفال الّتي له خاصّة لا يشركه فيها غيره «1».

و كلامه هنا قد قرّر أنّ في المفتوحة عنوة الخمس و باقيها للمسلمين قاطبة و هي بيد الإمام تصرف منافعها في مصالح المسلمين، و لا يجوز التصرّفات‏

                       

الموقوفة علی الملك أو الناقلة للعين فيها. و هي كلّها ما يستفاد من كلماته الاخر.

إلّا أن في ذيل كلامه هنا شبهة اختصاص ما فتح بيد سلاطين الجور من هذه الأراضي و العقارات بشخص الإمام من جهة أنّها من مصاديق الأنفال، و سيأتي إن شاء اللّه تعالی البحث عنها.

ج: و قد تعرّض لهذه الأرض في مواضع متعدّدة من كتاب الخلاف:

1/ ج: فقال في المسألة 10 من كتاب الزكاة: كلّ أرض فتحت عنوة بالسيف فهي أرض لجميع المسلمين، المقاتلة و غيرهم، و للإمام الناظر فيها تقبيلها ممّن يراه بما يراه من نصف أو ثلث، و علی المتقبّل بعد إخراج حقّ القبالة العشر أو نصف العشر فيما يفضل في يده و بلغ خمسة أوسق. و قال الشافعي: الخراج و العشر يجتمعان في أرض واحدة، يكون الخراج في رقبتها و العشر في غلّتها، قال:

و أرض الخراج سواد العراق، و حدّه من تخوم الموصل إلی عبّادان طولا، و من القادسية إلی حلوان عرضا، و به قال الزهري و ربيعة و مالك و الأوزاعي و الليث بن سعد و أحمد و إسحاق- إلی أن قال:- و أمّا مذهب أبي حنيفة فإنّ الإمام إذا فتح أرضا عنوة فعليه قسمة ما ينقل و يحوّل كقولنا، و أمّا الأرض فهو بالخيار بين ثلاثة أشياء: بين أن يقسّمها بين الغانمين أو يقفها علی المسلمين و بين أن يقرّها في يد أهلها المشركين و يضرب عليهم الجزية بقدر ما يجب علی رءوسهم، فإذا فعل هذا تعلّق الخراج بها إلی يوم القيامة و لا يجب العشر في غلّتها إلی يوم القيامة، فمتی أسلم واحد منهم اخذت تلك الجزية منه باسم الخراج، و لا يجب العشر في غلّتها و هو الّذي فعله في سواد العراق ... دليلنا إجماع الفرقة و الأخبار الّتي أوردناها في كتاب تهذيب الأحكام مفصّلة مشروحة.

ثمّ استدلّ بصحيحة محمّد الحلبي و رواية أبي الربيع الشامي الآتيتين إن شاء اللّه تعالی «1».

                       

فهو قدّس سرّه هنا قد صرّح بأنّ الأرض المفتوحة عنوة بالسيف لجميع المسلمين، و أمرها إلی الإمام فيتقبّلها ممّن يراه بما يراه، و لا محالة يكون خراجها الّذي لها عائدة لمالكها- أعني جميع المسلمين- و ظاهره أنّها دائما تكون و تبقی علی هذه الحالة فتكون أرضا خراجية أبدا لا تخرج عن ملك المسلمين.

2/ ج: و قال في المسألة 15 من كتاب الفي‏ء و قسمة الغنائم من الخلاف: مال الغنيمة لا يخلو من ثلاثة أحوال: ما يمكن نقله و تحويله إلی بلد الإسلام مثل الثياب و الدراهم و الدنانير و الأثاث و العروض، أو يكون أجساما مثل النساء و الولدان، أو كان ممّا لا يمكن نقله كالأرض و العقار و البساتين. فما يمكن نقله يقسّم بين الغانمين بالسوية ... «1».

في المسألة 18 قال: ما لا ينقل و لا يحوّل من الدور و العقارات و الأرضين عندنا أنّ فيه الخمس فيكون لأهله و الباقي لجميع المسلمين من حضر القتال و من لم يحضر، فيصرف منافعه إلی مصالحهم. و عند الشافعي أنّ حكمه حكم ما ينقل و يحوّل، خمسه لأهل الخمس و الباقي للمقاتلة الغانمين، و به قال ابن الزبير.

و ذهب قوم إلی أنّ الإمام مخيّر فيه بين شيئين: بين أن يقسّمه علی الغانمين، و بين أن يقفه علی المسلمين، ذهب إليه عمر و معاذ و الثوري و عبد اللّه بن المبارك.

و ذهب أبو حنيفة و أصحابه إلی أنّ الإمام مخيّر فيه بين ثلاثة أشياء: بين أن يقسّمه علی الغانمين، و بين أن يقفه علی المسلمين، و بين أن يقرّ أهلها عليها و يضرب عليها الجزية باسم الخراج ... و ذهب مالك إلی أنّ ذلك يصير وقفا علی المسلمين بنفس الاستغنام و الأخذ من غير إيقاف الإمام، فلا يجوز بيعه و لا شراؤه. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم ....

في المسألة 19 قال: سواد العراق ما بين الموصل و عبّادان طولا، و ما بين حلوان و القادسية عرضا فتحت عنوة فهي للمسلمين علی ما قدّمنا القول فيه. و قال‏

                       

الشافعي: كانت غنيمة للغانمين فقسّمها عمر بين الغانمين ثمّ اشتراها منهم و وقفها علی المسلمين ثمّ آجرها منهم، و هذا الخراج هو اجرة. و قال الثوري و ابن المبارك: وقفها عمر علی المسلمين. و قال أبو حنيفة: هذه الأرضون أقرّها عمر في يد أهلها المشركين و ضرب عليهم الجزية باسم الخراج، فهذا الخراج هو تلك الجزية و عنده لا يسقط ذلك بالإسلام. و قال مالك: صارت وقفا بنفس الاستغنام.

دليلنا: ما قلناه في المسألة الاولی سواء «1».

فهو قدّس سرّه حكم فيما لا ينقل و لا يحوّل من الغنيمة- أعني الدور و العقارات و الأرضين- بأنّ فيها الخمس لأهله و أنّ الباقي منها بعد إخراج الخمس لجميع المسلمين، و أنّ منافعها تصرف إلی مصالحهم، و ادّعی عليها إجماع الفرقة و أخبارهم، و حيث إنّه عدّها من أقسام الغنيمة و قد صرّح في المسألة الاولی من كتاب الفي‏ء و قسمة الغنائم بقوله: «كلّ ما يؤخذ بالسيف قهرا من المشركين يسمّی غنيمة بلا خلاف» «2» فهذه الأراضي و الدور و العقارات تكون مفتوحة عنوة حكم عليها بالأحكام المذكورة.

ثمّ هو قدّس سرّه قد تعرّض لحكم سواد العراق في المسألة الأخيرة قال بأنّها فتحت عنوة فتكون للمسلمين علی ما تقدّم.

3/ ج: و قال في المسألة 23 من كتاب السير من الخلاف: كلّ أرض فتحت عنوة بالسيف فهي للمسلمين كافّة لا يجوز قسمتها بين الغانمين، و إنّما يقسّم بينهم ما سوی العقارات و الأرضين من الأموال. و به قال مالك و الأوزاعيّ، إلّا أنّهما قالا: تصير وقفا علی المسلمين بالفتح. و قال الشافعي: يجب قسمتها بين الغانمين كما يقسم غير الأرضين. و قال أبو حنيفة: الإمام مخيّر، إن شاء قسّم و إن شاء أقرّ أهلها فيها و ضرب عليهم الجزية و إن شاء أجلاهم و جاء بقوم آخرين من أهل الذمّة فأسكنهم إيّاها و ضرب عليهم الجزية.

                        

و أصل هذا الخلاف سواد العراق الّتي فتحت في أيّام عمر. فعند الشافعي أنّه قسّمها بين المقاتلة ثمّ استطاب أنفسهم و اشتراها. و عند مالك أنّه وقفها. و عند أبي حنيفة أنّه أقرّ أهلها فيها و ضرب عليهم الجزية و هي الخراج. دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم، و قد مرّت في كتاب الزكاة «1».

فقد حكم هنا بمجرّد أنّ الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين و سكت عن سائر أحكامها.

3- و قال الفقيه الأقدم أبو الصلاح الحلبي (المتوفّی سنة 447 ه) في مبحث الجهاد من الكافي في البحث عن مغانم المحاربين: القسم الثاني من الغنائم، أراضي المحاربين خمس، فأرض أسلم أهلها عليها، و أرض اخذت عنوة بالسيف، و أرض صولح أهلها عليها، و أرض سلّمها أهلها من غير حرب أو جلوا عنها، و أرض المرتدّين و كفّار التأويل و المحاربين.

فأمّا الأرض الّتي أسلم أهلها فهي لهم و ملك في أيديهم، و عليهم فيما يخرجه من الأصناف الأربعة الزكاة فحسب ...

و أمّا الأرض المأخوذة عنوة فيلزم الناظر تقبيلها بما يراه مدّة معلومة، و يشترط علی متقبّلها إخراج الزكاة من أصل ما يخرجه من الأصناف الأربعة إلی أهلها، و أخذ ما بقي عن شرط القبالة فيصرف إلی أنصار الإسلام ... و له صرف ذلك في مصالح الإسلام و سدّ ثغوره و تقويته بالخيل و السلاح علی أعدائه، و لا يجوز لأحد أن يعترض عليه في ذلك.

ثمّ ذكر حكم أرض صولح عليها و هي أرض الجزية، و حكم أرض الأنفال، و صرّح أنّ أرض الكفّار المتأوّلين و المرتدين و بغاة المحاربين باقية علی ما كانت عليه قبل الحرب، فراجع «2».

فهو قدّس سرّه قد جعل الأرض المأخوذة عنوة موصوفة بوصف المأخوذة و هي تدلّ‏

                       

علی أنّها اخذت من الكفّار المحاربين و لم يصرّح بأنّها ملك جميع المسلمين إلّا أنّه حكم بأنّ ما يؤخذ من عوائدها بعد شرط القبالة الّذي لمتقبّلها يصرف بيد الناظر في مصالح الإسلام، فيدلّ هذا الحكم أنّ نفس الأرض ملك للمسلمين حتّی يصرف عوائدها فيهم، و العوائد هنا هي الخراج كما هو واضح.

4- و قال الشيخ حمزة بن عبد العزيز الديلمي المعروف بسلّار (المتوفّی سنة 448. ه) في ذيل كتاب الخمس من المراسم: ذكر الجزية، و هي تشتمل علی ذكر من تجب عليه الجزية و مبلغها و لمن هي؟ إنّما هي تجب علی بالغ الذكر من اليهود و النصاری و المجوس خاصّة، فمن عداهم من الكفّار لا ذمّة له ... ذكر حكم من أسلم، كلّ من أسلم سقطت عنه الجزية، و إسلامه علی ضربين: طوعا و كرها. فإن أسلم طوعا فأرضه تترك في يده، فإذا عمرها فعليه فيها ما يجب من الزكاة في الغلّات- من العشر أو نصف العشر- و ما لم يعمره قبّله الإمام لمن يعمره، و علی المتقبّل في حصّة العشر أو نصف العشر في الأوساق. و إن أسلم كرها بالسيف فللإمام أن يؤجر أرضه أيضا من شاء منهم و من غيرهم، و ليس له قسمتها في الجيش الّذين حاربوهم، و يقبّلها الإمام بما يراه صلاحا من النصف و الثلثين و الثلث «1».

فهو قدّس سرّه قد ذكر حكم أرض من أسلم طوعا و أنّها تترك في يده، ثمّ ذكر حكم أرض من أسلم كرها بالسيف و أنّ الإمام يؤجّر أرضه فمقابلته بين أرضيهما بالتعبيرين شاهدة علی أنّ أرض من أسلم كرها بالسيف لا تترك في يده بل تؤجر بيد الإمام و بما يراه صلاحا، فيستفاد منه أنّ أرض من أسلم بالسيف تؤخذ منه و تكون بيد الإمام، فلم يصرّح بأنّها للمسلمين إلّا أنّه المناسب لكونها بيد إمام المسلمين.

5- و قال القاضي ابن البرّاج (المتوفّی سنة 481 ه) في كتاب الخمس من المهذّب:

باب أحكام الأرضين. الأرضون تنقسم أربعة أقسام: أوّلها قسم يسلم أهلها عليها طوعا، و ثانيها أرض افتتحت بالسيف عنوة، و ثالثها كلّ أرض صالح أهلها عليها،

                       

و رابعها أرض الأنفال، و نحن نفرد لكلّ واحد منها بابا إن شاء اللّه تعالی:

باب ذكر الأرض الّتي يسلم أهلها عليها: الأرض إذا أسلم أهلها عليها طوعا من غير حرب تركت في أيديهم و كانت ملكا لهم ...

باب ذكر الأرض المفتتحة بالسيف عنوة: الأرض إذا فتحت عنوة كانت لجميع المسلمين، للمقاتل منهم و غير المقاتل، و ارتفاعها يقسّم بينهم ... و للإمام أن يقبّلها بما يراه لمن يعمرها ... و له التصرّف في هذه الأرض بما يراه صلاحا للمسلمين ...

ثمّ ذكر حكم أرض الصلح الّتي هي أرض الجزية و حكم أرض الأنفال و تعيينها، فراجع «1».

فقد صرّح بأنّ الأرض المفتوحة عنوة ملك لجميع المسلمين و أنّها بيد الإمام و عوائدها تقسّم بين المسلمين.

و قال أيضا في باب الغنائم من المهذّب: و ما لا يختصّ بمقاتل دون غيره و يكون لجميع المسلمين فهو كلّ ما اغتنمه المسلمون ما لم يحوه العسكر من الأراضي و العقارات و غير ذلك، فإنّ جميعه لكافّة المسلمين، المقاتل منهم و غير المقاتل و الغائب منهم و الحاضر علی السواء «2».

و هو كما تری مؤكّد لما سبقه و اقتصر فيه علی ذكر مجرّد كونها لكافّة المسلمين.

6- و قال السيّد أبو المكارم ابن زهرة (المتوفّی سنة 585 ه) في كتاب الجهاد من الغنية: و ما لم يحوه العسكر من غنائم من خالف الإسلام من الكفّار من أرض و عقار و غيرها فالجميع للمسلمين المقاتل منهم و غير المقاتل و الحاضر و الغائب، و هذه الأرض المفتتحة عنوة بالسيف ...

ثمّ تعرّض لأرض الصلح الّتي هي أرض الجزية و أرض الأنفال، فراجع «3».

فقد بيّن المراد بالمفتوحة عنوة و حكم بوضوح أنّها للمسلمين قاطبة و لازمه أن يكون عوائدها أيضا لهم.

                       

7- و قال الشيخ أبو الحسن الحلبي (الّذي هو من أعلام القرن السادس الهجري) في كتاب الجهاد من إشارة السبق: و تقسم الغنيمة المنقولة بين المجاهدين ... و ما لا يمكن نقله من العقارات و الأرضين في‏ء لجميع المسلمين بحاضرهم و غائبهم و مقاتلهم و غيره، و الأرض إمّا أن تكون مفتّحة بالسيف عنوة فلا يصحّ التصرّف فيها ببيع و لا هبة و لا غيرهما بل حكمها ما ذكرناه، و إلی الإمام تقبيلها و الحكم فيها بما شاء و يلزم المتقبّل بعد أداء ما عليه من حقّ القبالة الزكاة إذا بلغ ما بقی له النصاب.

ثمّ تعرّض لأرض الصلح الّتي هي أرض جزية و لأراضي الأنفال و لأرض أسلم أهلها عليها، فراجع «1».

فتراه قد حكم علی الأرض و العقارات المفتوحة عنوة أنّها ملك لجميع المسلمين و بيد الإمام، و لا يجوز التصرّف الناقل فيها.

8- و قال الكيدري (الّذي هو من أعلام القرن السادس الهجري) في الفصل السابع من كتاب الزكاة من إصباح الشيعة- عند التعرّض لحكم الأقسام الأربعة للأرض-: و كلّ أرض اخذت بالسيف عنوة فهي للمسلمين قاطبة للمقاتلة و غيرهم يقبّلها الإمام ممّن يقوم بعمارتها بما يراه ... فلا يصحّ التصرّف في هذا النوع بالبيع و الوقف و غير ذلك، و للإمام التصرّف فيه حسب ما يراه من مصلحة المسلمين، و أن ينقله من متقبّل إلی آخر إذا انقضت مدّة زمانه، و ارتفاع ذلك يصرف إلی المسلمين و مصالحهم «2».

فقد صرّح كما تری بأنّ الأرض المفتوحة عنوة لقاطبة المسلمين و بيد الإمام و بأنّ عوائدها تصرف إلی مصالح المسلمين و بأنّه لا يجوز التصرّف فيها تصرّفا ناقلا كالبيع و الوقف.

9- و قال ابن إدريس (المتوفّی سنة 598 ه) في كتاب الزكاة من السرائر:

                       

باب أحكام الأرضين و ما يصحّ التصرّف فيه منها بالبيع و الشراء و ما لا يصحّ، الأرضون علی أربعة أقسام: ضرب منها أسلم أهلها عليها طوعا من قبل نفوسهم من غير قتال مثل أرض المدينة فيترك في أيديهم ... و هي ملك لهم ... و الضرب الثاني من الأرضين ما اخذ عنوة بالسيف- عنوة (بفتح العين) و هو ما أخذ عن خضوع و تذلّل، قال اللّه تعالی: وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ أي خضعت و ذلّت- فإنّ هذه الأرض تكون للمسلمين بأجمعهم، المقاتلة و غير المقاتلة، و كان علی الإمام لمن يقوم بعمارتها بما يراه، من النصف أو الثلث أو الربع إلی غير ذلك، و كان علی المتقبّل إخراج ما قبل به من حقّ الرقبة، يأخذه الإمام فيخرج منه الخمس يقسّمه علی مستحقّيه؛ و الباقي منه يجعله في بيت مال المسلمين يصرف في مصالحهم، من سدّ الثغور و تجهيز الجيوش و بناء القناطر و غير ذلك ... و هذا الضرب من الأرضين لا يصحّ التصرّف فيه بالبيع و الشراء و الوقف و الهبة و غير ذلك- أعني نفس الرقبة- فإن قيل: نراكم تبيعون و تشترون و تقفون أرض العراق و قد اخذت عنوة، قلنا: إنّما نبيع و نقف تصرّفنا فيها و تحجيرنا و بناءنا، فأمّا نفس الأرض لا يجوز ذلك فيها «1».

ثمّ تعرّض لحكم أرض الصلح الّتي هي أرض الجزية و أرض الأنفال.

فهو قدّس سرّه قد حكم بأنّ الأرض المفتوحة عنوة لقاطبة المسلمين، و بأنّ فيها الخمس يخرج من خراجها، و بأنّها لا يجوز التصرّفات الناقلة لعين الأرض فيها، و بأنّ هذه الأرض بيد الإمام عليه السّلام يقبّلها من يريد و يصرف عوائدها في مصالح المسلمين.

و قال أيضا في باب قسمة الفي‏ء و أحكام الاساری من كتاب الجهاد من السرائر: كلّ ما غنمه المسلمون من المشركين ... بعد إخراج الخمس ... علی ضربين: ضرب منه للمقاتلة خاصّة دون غيرهم من المسلمين، و ضرب هو عامّ لجميع المسلمين مقاتليهم و غير مقاتليهم، فالّذي هو لجميع المسلمين فكلّ ما عدا

                       

ما حواه العسكر من الأرضين و العقارات و غير ذلك فإنّه بأجمعه في‏ء للمسلمين من غاب منهم و من حضر علی السواء، و ما حواه العسكر يقسّم بين المقاتلة خاصّة و لا يشركهم فيه غيرهم «1».

فهنا أيضا قد تعرّض للأرض و العقارات و غيرها ممّا لم يحوها العسكر و كانت مغنومة من المشركين، و لا محالة تكون مأخوذة عنوة و بالسيف و قد أفتی بوجوب الخمس فيها و أنّها بعد إخراج الخمس تكون لجميع المسلمين.

10- و قد تعرّض المحقّق الحلّي قدّس سرّه للمسألة في الشرائع و المختصر النافع:

ألف: فقال في كتاب الجهاد من الشرائع- بعد تقسيم غنائم الحرب إلی أقسام ثلاثة- الطرف الخامس في أحكام الغنيمة، و النظر في الأقسام، و أحكام الأرضين المفتوحة، و كيفية القسمة ...: الثاني في أحكام الأرضين: كلّ أرض فتحت عنوة كانت محياة فهي للمسلمين قاطبة و الغانمون في الجملة، و النظر فيها إلی الإمام، و لا يملكها المتصرّف علی الخصوص، و لا يصحّ بيعها و لا هبتها و لا وقفها، و يصرف الإمام حاصلها في المصالح مثل سدّ الثغور و معونة الغزاة و بناء القناطر، و ما كانت مواتا وقت الفتح فهو للإمام خاصّة و لا يجوز إحياؤه إلّا بإذنه إن كان موجودا ...

ثمّ تعرّض لأرض الصلح و قسّمها قسمين، و لأرض أسلم أهلها عليها طوعا، فراجع «2».

ب- و قال في كتاب الجهاد من المختصر النافع: النظر الثالث في التوابع، و هي أربعة: ... الثالث في أحكام الأرضين: و كلّ أرض فتحت عنوة و كانت محياة فهي للمسلمين كافّة، و الغانمون في الجملة، لا تباع و لا توقف و لا توهب و لا تملك علی الخصوص، و النظر فيها إلی الإمام يصرف حاصلها في المصالح، و ما كان مواتا وقت الفتح فهو للإمام لا يتصرّف فيه إلّا بإذنه.

                       

ثمّ تعرّض لقسمي أرض الصلح و لأرض أسلم أهلها طوعا و للأرض الموات بالأصل أو بالعرض، فراجع «1».

فما أفتی به في كتابيه متّحد لمّا مر في كلمات غيره إلّا أنّه صرّح بأنّ خصوص المحياة من الأرض تكون مفتوحة عنوة و للمسلمين، و أمّا الأراضي الموات وقت الفتح فهي للإمام عليه السّلام.

11- و قد تعرّض أيضا العلّامة للمسألة في كتبه نذكر منها ما يلي:

ألف: قال في كتاب الجهاد من القواعد- بعد تقسيم غنائم الحرب إلی ما ينقل و ما لا ينقل و ما هو سبي-: الثاني ما لا ينقل يخرج منه الخمس، إمّا بإفراز بعضه أو بإخراج خمس حاصله، و الباقي للمسلمين قاطبة لا يختصّ به الغانمون، مثل الأرض، فإن فتحت عنوة: فإن كانت محياة فهي [في‏ء- خ‏] للمسلمين قاطبة لا يختصّ بها الغانمون و النظر فيها إلی الإمام، و لا يصحّ بيعها و لا وقفها و لا هبتها، و لا يملكها التصرّف فيها علی الخصوص، و يقبّلها الإمام لمن يراه بما يراه حظّا للمسلمين، و يصرف حاصلها في مصالحهم كسدّ الثغور و بناء القناطر و معونة الغزاة و أرزاق الولاة و القضاة و ما أشبهه، و لو ماتت لم يصحّ إحياؤها لأنّ المالك لها معروف و هو المسلمون كافّة. و ما كان منها مواتا حال الفتح فللإمام خاصّة لا يجوز إحياؤها إلّا بإذنه «2».

فقد فصّل في المفتوحة عنوة فجعل مواتها للإمام عليه السّلام و محياتها للمسلمين قاطبة بعد إخراج خمسها أو خمس حاصلها، و حكم بأنّها لا يصحّ التصرّفات الناقلة للملك فيها، و بأنّ هذه الأرض بيد الإمام لم يصرف حاصلها في مصالح المسلمين.

ب- و قال في كتاب الجهاد من إرشاد الأذهان: المطلب الثالث في الأرضين، و هي أربعة: الأوّل المفتوحة عنوة للمسلمين قاطبة، و يتولّاها الإمام، و لا يملكها المتصرّف علی الخصوص، و لا يصحّ بيعها و لا وقفها، و يصرف الإمام‏

                       

حاصلها في مصالح المسلمين ... و مواتها وقت الفتح للإمام خاصّة و لا يجوز إحياؤها إلّا بإذنه «1».

فقد فصّل بين الأرض المحياة من المفتوحة عنوة و الموات منها، فحكم بأنّ الموات منها للإمام، و المحياة للمسلمين قاطبة، و هي بيد الإمام، و يصرف حاصلها في مصالح المسلمين، و لا يجوز التصرّف الناقل فيها.

ج- و قال في كتاب الجهاد من التذكرة- بعد تقسيم غنائم الحرب إلی ما ينقل كالأمتعة و ما هو سبي و ما لا ينقل كالأراضي-: البحث الثالث في أحكام الأرضين:

مسألة 108: الأرضون علی أربعة أقسام: الأوّل ما يملك بالاستغنام من الكفّار و يؤخذ قهرا بالسيف، و هي تملك بالاستغنام كما تملك المنقولات، و تكون للمسلمين قاطبة لا تختصّ بها المقاتلة، بل يشاركهم غيرهم من المسلمين، و لا يفضل الغانمون علی غيرهم أيضا، بل هي للمسلمين قاطبة، ذهب إليه علماؤنا أجمع، و به قال مالك ... و قال الشافعي: يقسّم بين الغانمين كسائر الأموال، و به قال أنس بن مالك و الزبير و بلال، و قال الثوري: يتخيّر الإمام بين القسمة و الوقف علی المسلمين، و رواه العامّة عن عليّ عليه السّلام، و قال أبو حنيفة: يتخيّر الإمام بين قسمتها و وقفها و أن يقرّ أهلها عليها و يضرب عليها الخراج يصير حقّا علی رقبة الأرض لا يسقط بالإسلام ... «2».

مسألة 109: الأرض المأخوذة بالسيف عنوة يقبّلها الإمام لمن يقوم بعمارتها بما يراه من النصف و غيره ... فلا يصحّ التصرّف في هذه الأرض بالبيع و الشراء و الوقف و غير ذلك، و للإمام أن ينقله من متقبّل إلی غيره إذا انقضت مدّة قبالته و له التصرّف فيه بما يراه من مصلحة المسلمين، و ارتفاع هذه الأرض ينصرف إلی مصالح المسلمين بأجمعهم و في مصالحهم ... إذا عرفت هذا فإنّ هذه الأرض للمسلمين قاطبة إن كانت محياة وقت الفتح لا يصحّ بيعها و لا هبتها و لا وقفها، بل يصرف الإمام حاصلها في المصالح كسدّ الثغور و معونة الغزاة و بناء القناطر

                       

و أرزاق القضاة و الولاة و صاحب الديوان و غير ذلك من المصالح، و أمّا الموات منها وقت الفتح فهي للإمام خاصّة و لا يجوز لأحد إحياؤه إلّا بإذنه إن كان ظاهرا ... إذا عرفت هذا فإذا زرع فيها أحد أو بنی أو غرس صحّ له بيع ما له فيها من الآثار، و حقّ الاختصاص فيها بالتصرّف لا بيع الرقبة لأنّها ملك المسلمين قاطبة، روی أبو بردة بن رجا أنّه سأل الصادق عليه السّلام: كيف تری في شراء أرض الخراج ...

فذكر الحديث بتمامه «1».

فهو قدّس سرّه في المسألة الاولی قد أفتی بأنّ الأرض المأخوذة بالسيف ملك للمسلمين قاطبة و قال بأنّه ذهب إليه علماؤنا أجمع. و في المسألة الثانية أكّده بأنّ هذه الأرض بيد الإمام يقبّلها لمن يراه بما يراه و يصرف حاصلها في مصالح المسلمين، و أكّد أيضا بأنّ هذه الأرض لا يجوز أن يتصرّف فيها يتصرّف ناقل أصلا حتّی أنّ المتقبّل لها لا يجوز له أن يبيع الرقبة لأنّها ملك المسلمين و إنّما له أن يبيع حقّ اختصاصها أو ما له فيها من الآثار.

ثمّ زاد في المسألة الثانية أنّ ما للمسلمين من المفتوحة عنوة خصوص المحياة منها وقت الفتح، و أمّا الموات منها وقت الفتح فهي للإمام خاصّة.

و قال أيضا في جهاد التذكرة في المسألة 110: و أمّا أرض مكّة فالظاهر من المذهب أنّ النبيّ صلّی اللّه عليه و آله فتحها بالسيف ثمّ آمنهم بعد ذلك، و به قال أبو حنيفة و مالك و الأوزاعي ... و أمّا أرض السواد- و هي الأرض المغنومة من الفرس الّتي فتحها عمر بن الخطّاب- و هي سواد العراق ... و سمّيت سوادا لأنّ الجيش لمّا خرجوا من البادية رأوا هذه الأرض و التفاف شجرها سمّوها السواد لذلك ... قال الشيخ رحمه اللّه:

الّذي يقتضيه المذهب أنّ- فنقل عبارات الشيخ الماضية من جهاد المبسوط في سواد العراق إلی قوله: «لا يشركه فيها غيره» ثمّ نقل عنه و عن الشافعي و أبي حنيفة و أحمد مساحة سواد العراق و ما جعل عليها من الخراج إلی أن قال:- و قال‏

                        

بعض الشافعية: إنّ سواد العراق فتح صلحا، و هو محكيّ عن أبي حنيفة، و قال بعضهم: اشتبه الأمر عليّ فلا أدري أفتح عنوة أو صلحا؟ ثمّ اختلفت الشافعية، فقال بعضهم: إنّ عمر جعل الأربعة الأخماس الباقية من الأرض لأهل الخمس عوضا لهم عن نصيبهم من المنقولات من الغنيمة فصارت الأرض لأهل الخمس و المنقولات للغانمين. و قال بعضهم: إنّه قسّمها بين الغانمين و لم يخصّها بأهل الخمس ثمّ استطاب قلوبهم عنها و استردّها، فقال الأكثرون: إنّه بعد ردّها وقفها علی المسلمين و آجرها من أهلها، و الخراج المضروب عليها اجرة منجّمة تؤدّی في كلّ سنة. و هو نصّ الشافعي في كتاب الرهن، قال سفيان الثوري: جعل عمر السواد وقفا علی المسلمين ما تناسلوا. و قال بعضهم: إنّه باعها من أهلها و الخراج ثمن منجّم لأنّه لم يزل الناس يبيعون أرض السواد و يشترون من غير إنكار ...

و قال بعضهم: إنّه وقفها وقفا لا مؤبّدا محرّما بل جعلها موقوفة علی مصالح المسلمين ليؤدّي ملّاكها علی تداول الأيدي و تبدّلها بالبيع و الشراء خراجا ينتفع به المسلمون؛ فيجوز بيعها و هبتها و رهنها علی الثاني لا الأوّل، و يجوز علی الوجهين لأربابها إجارتها مدّة معلومة ...

هذا فيما يزرع و يغرس من الأراضي، و أمّا المساكن و الدور فإن قلنا: إنّ تلك الأراضي مبيعة من أربابها فكذا المساكن و الدور، و إن قلنا: موقوفة فوجهان «1».

و غرضنا من نقل كلامه في سواد العراق بهذا الطول أن نستفيد ممّا أفاده من أقوال العامّة فيما سيأتي إن شاء اللّه تعالی.

د- و قال في كتاب الجهاد من المنتهی: البحث الثالث في أحكام الأرضين:

الأرضون أربعة أقسام، أحدها يملك بالاستغنام و يؤخذ قهرا بالسيف، فإنّها تكون للمسلمين قاطبة، فلا يختصّ بها المقاتلة بل يشاركهم غير المقاتلة من المسلمين، و كما لا يختصّون بها كذلك لا يفضّلون، بل هي للمسلمين قاطبة، ذهب إليه علماؤنا

                       

أجمع و به قال مالك. و قال الشافعي: إنّها تقسم بين الغانمين كسائر الأموال. و به قال أنس بن مالك و الزبير و بلال. و قال قوم: إنّ الإمام مخيّر بين القسمة و الوقف علی المسلمين. و رواه الجمهور عن عليّ عليه السّلام و عمر، و به قال الثوري. و قال أبو حنيفة:

الإمام مخيّر بين ثلاثة: بين قسمتها و دفعها و أن يقرّ أهلها و يضرب عليهم الخراج يسيرا حقّا علی رقبة الأرض لا يسقط بالإسلام ... ثم استدلّ لإثبات مرامه، فراجع «1».

مسألة: و هذه الأرض المأخوذة بالسيف عنوة [يقبّلها- ظ] الإمام لمن يقوم بعمارتها بما يراه من النصف أو الثلث ... و هذا من الأرضين لا يصحّ التصرّف فيها بالبيع و الشراء و الوقف و غير ذلك، و للإمام أن ينقله من متقبّل إلی غيره إذا انقضت مدّة ضمانه، و له التصرّف فيه بحسب ما يراه من مصلحة المسلمين، و ارتفاع هذه الأرض ينصرف إلی المسلمين بأجمعهم و إلی مصالحهم، و ليس للمقاتلة خصوصا إلّا ما يحويه العسكر ... ثمّ استدلّ لإثبات مرامه بخبري البزنطي و رواية مصعب بن يزيد الأنصاري، فراجع 2.

فقد أفتی بأنّ الأراضي المفتوحة قهرا بالسيف و هي المفتوحة عنوة للمسلمين قاطبة و قال: «ذهب إليه علماؤنا أجمع» ثمّ أفتی بأنّها لا يجوز التصرّفات الناقلة فيها و بأنّها في يد الإمام يأخذ منها الخراج من عوائدها و بأنّ ارتفاع هذه الأرض تصرف إلی مصالح المسلمين.

مسألة: قد بيّنّا أنّ الأرض المأخوذة عنوة لا يختصّ بها الغانمون بل هي للمسلمين قاطبة إن كانت محياة وقت الفتح، و لا يجوز بيعها و لا هبتها و لا وقفها، بل يصرف الإمام حاصلها في المصالح مثل سدّ الثغور و معاونة الغزاة و بناء القناطير، و يخرج منها أرزاق القضاة و الولاة و صاحب الديوان و غير ذلك من مصالح المسلمين، و أمّا الموات منها وقت الفتح فهي للإمام خاصّة و لا يجوز لأحد إحياؤها إلّا بإذنه إن كان موجودا ... 3.

                       

و هذا كما تری تأكيد لما سبق إلّا أنّه يفيد أنّ أحكام المفتوحة عنوة الماضية تختصّ بالمحياة وقت الفتح و إلّا فالموات خاصّ بالإمام كسائر الأنفال.

مسألة: قد بيّنّا أنّ أرض الخراج و هي المأخوذة عنوة بالسيف إذا كانت محياة لا يجوز بيعها و لا هبتها و لا وقفها لأنّها أرض المسلمين قاطبة وقفا عليهم، فلا يتخصّص بها أحد علی وجه التملّك لرقبة الأرض، إنّما يجوز التصرّف فيها و يؤدّی حقّ القبالة إلی الإمام، و يخرج أيضا الزكاة منها مع اجتماع الشرائط، و إذا تصرّف أحد بالبناء و الغرس صحّ له بيعها، علی معنی أنّه يبيع ماله فيها من الآثار و حقّ الاختصاص بالتصرّف لا بالرقبة، لأنّها ملك المسلمين قاطبة ... ثمّ استدلّ للجواز المدّعی برواية أبي بردة بن رجا و صحيح محمّد بن مسلم و حسن حريز، فراجع «1».

و هذا كما تری تأكيد أكثر علی أنّ الأرض ملك للمسلمين لا يجوز التصرّف الناقل لها عن ملكهم، و إنّما يجوز بيع حقّه فيها.

مسألة: أرض السواد هي الأرض المغنومة من الفرس الّتي فتحها عمر بن الخطّاب، و هي سواد العراق ... و هذه الأرض فتحت عنوة ... قال الشيخ: الّذي يقتضيه المذهب أنّ هذه الأراضي ...- فنقل كلام الشيخ المذكور عن الفهرست كما في التذكرة، إلّا أنّه لم ينقل أقوال العامّة في فتحها عنوة و لا فيما فعل عمر بها، فراجع 2-.

فهذه كلمات العلّامة في هذه الكتب الأربعة، و قد عرفت أنّه موافق لسائر الأصحاب فيما أفاد، كما ذكرنا ذيل كلّ من مقاطع كلماته.

12- و قال الشهيد في جهاد الدروس: تقسّم الغنيمة المنقولة بعد الجعائل و المؤن ثمّ الخمس بين المقاتلة و من حضر قبل القسمة ... و ما لا ينقل من الأرضين و العقارات فهو للمسلمين قاطبة، و النظر فيه إلی الإمام «3».

و قال أيضا: ... و لا يجوز التصرّف في المفتوحة عنوة إلّا بإذن الإمام عليه السّلام،

                       

سواء كان بالوقف أو بالبيع أو غيرهما، نعم في حال الغيبة ينفذ ذلك، و أطلق في المبسوط أنّ التصرّف فيها لا ينفذ. و قال ابن إدريس: إنّما يباع و يوقف تحجيرنا و بناؤنا و تصرّفنا لا نفس الأرض «1».

و هو قدّس سرّه أيضا قد حكم بأنّ الأرض المغنومة في الحرب المفتوحة عنوة للمسلمين قاطبة بيد الإمام، و منع التصرّف فيها بدون إذنه، إلّا أنّ ظاهر ذيله جواز التصرّفات الناقلة فيها بإذن الإمام في زمن الحضور و عدم اعتبار إذنه أيضا في التصرّف فيها في حال الغيبة. و سيجي‏ء إن شاء اللّه تعالی الكلام في الأمرين.

هذه كلمات هؤلاء الأساطين من الأصحاب الكرام قدّس سرّه، و قد عرفت اتفاق كلمتهم علی أنّ محياة الأرض المفتوحة عنوة لقاطبة المسلمين بل ادّعی عليه الإجماع الشيخ قدّس سرّه في مواضع من الخلاف و العلّامة في التذكرة و المنتهی، و اتفقوا أيضا علی أنّها بيد الإمام و خراجها يصرف إلی مصالح المسلمين.

و قال المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة و البرهان في المفتوحة عنوة: و نقل- يعني العلّامة- في المنتهی و التذكرة إجماعنا علی كونها للمسلمين قاطبة ...

و سيظهر كون المراد بما كان له هذا الحكم المعمورة منها حال الفتح و القهر و الغلبة، دون مواتها حينئذ، فإنّها للإمام عليه السّلام كسائر الموات الّتي ليست ملكا لأحد و لم يجر عليها يد الملكية بالاتفاق «2».

و قال صاحب الرياض- عند قول الماتن: «فهي للمسلمين كافّة»-: إلی يوم القيامة. «و الغانمون في الجملة» كشركة باقي المسلمين من غير خصوصيّة، بإجماعنا الظاهر المستفاد من جماعة للمعتبرة المستفيضة ... «3».

و قال صاحب الجواهر في كتاب الجهاد- ذيل قول الماتن: «فهي للمسلمين قاطبة، و الغانمون في الجملة»-: بلا خلاف أجده في شي‏ء من ذلك بيننا ... بل في‏

                       

الغنية و المنتهی و قاطعة اللجاج للكركي و الرياض و موضعين من الخلاف بل و التذكرة علی ما حكی عن بعضها الإجماع عليه، بل هو محصّل «1».

و لنكتف بهذا المقدار من نقل كلمات الأعلام و لنرجع بالتفصيل إلی أدلّة المسألة و ان مقتضاها ما هو؟ فنقول: إنّه بملاحظة ما مرّ من كلماتهم لا بدّ من البحث عن مسائل:

فنبحث أوّلا عن أنّ الأراضي المفتوحة عنوة ملك للمسلمين، ثمّ عن أنّه هل يفرّق في هذا الحكم بين زمان الحضور و الغيبة، ثمّ عن اختصاص ملكهم بخصوص المحياة منها و كون الموات منها من الأنفال و ملكا للإمام عليه السّلام، ثمّ عن أنّ الدور و الأبنية و العقار أيضا بحكم الأراضي، ثمّ عن أنّ حكم الأراضي المفتوحة عنوة هل يختصّ بما اخذت من الكفّار، ثمّ عن تعلّق الخمس بنفس الأرض أو خراجها.

 [هنا مسائل‏]

 [1- الأراضي المفتوحة عنوة ملك للمسلمين‏]

فالمسألة الاولی في أنّ الأراضي المفتوحة عنوة ملك للمسلمين، و قد عرفت اتفاق كلمة الأصحاب عليه و أنّ الشيخ في مواضع من الخلاف و العلّامة في التذكرة و المنتهی ادّعيا إجماع الأصحاب عليه كما أنّ صاحب الجواهر بعد نقله الإجماع عن جمع قال: بل هو محصّل.

إلّا أنّك خبير بأنّه لا مجال للاستدلال بهذا الإجماع، فإنّه قد وردت هنا أخبار معتبرة السند يحتمل بل يطمأن أنّها أدلّة قول المجمعين، فالإجماع لا مجال للاستدلال به.

و أمّا الروايات الواردة في المقام فهي عديدة:

1- منها صحيحة محمّد بن عليّ بن أبي شعبة الحلبي قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن السواد ما منزلته؟ فقال: هو لجميع المسلمين، لمن هو اليوم و لمن يدخل في الإسلام بعد اليوم و لمن لم يخلق بعد، فقلت: الشراء من الدهاقين؟ قال: لا يصلح إلّا أن تشری منهم علی أن يصيّرها للمسلمين، فإذا شاء وليّ الأمر أن يأخذها أخذها،

                       

قلت: فإن أخذها منه؟ قال: يردّ عليه رأس ماله و له ما أكل من غلّتها بما عمل «1».

فمورد السؤال و موضوع الحكم هو السواد الّذي قد ظهر ممّا مرّ من كلمات الأعلام أنّه أرض العراق الّتي فتحها عمر بن الخطّاب عنوة، فحكم الإمام عليه السّلام بأنّه لجميع المسلمين بحيث لو اشتراه أحد لم يخرج عن كونه لهم، بل لا يتصوّر و لا يصحّ الاشتراء إلّا بأن يصير بعد الاشتراء أيضا ملكا للمسلمين.

فدلالة هذه الصحيحة علی أنّ أرض العراق- و هي أرض مفتوحة عنوة- ملك لجميع المسلمين واضحة، و إذا انضمت إليها صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن سيرة الإمام في الأرض الّتي فتحت بعد رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله فقال: إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قد سار في أهل العراق بسيرة فهي [فهم- ئل‏] إمام لسائر الأرضين ... الحديث «2». كان المستفاد منهما أنّ كلّ حكم كان علی أرض العراق كان حكما لسائر الأرضين أيضا، فلا محالة تكون الأراضي المفتوحة بيد خلفاء الجور كلّها محكومة بحكم أرض العراق و ملكا لجميع المسلمين. و واقع الأمر أنّ جميع الأراضي المفتوحة عنوة قد فتحت بيد هؤلاء الطواغيت إلّا خصوص ما فتحت في زمن النبيّ الأعظم صلّی اللّه عليه و آله من مثل خيبر و مكّة، و أمرهما واضح، فتكون نتيجة الأمر أنّ جميع الأراضي المذكورة ملك للمسلمين قاطبة.

2- و منها ما رواه الشيخ بسند صحيح عن صفوان بن يحيی عن أبي بردة بن رجا قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: كيف تری في شراء أرض الخراج؟ قال: و من يبيع ذلك؟! هي أرض المسلمين. قال: قلت يبيعها الّذي هي في يده، قال: و يصنع بخراج المسلمين ما ذا؟ ثمّ قال: لا بأس اشتری حقّه منها و يحوّل حقّ المسلمين عليه و لعلّه يكون أقوی عليها و أملأ بخراجهم منه «3».

این مورد را ارزیابی کنید
(0 رای‌ها)
محتوای بیشتر در این بخش: « قسمة7 قسمة9 »

پیام هفته

تحمیل نظر خویش بر آگاهان
قرآن : ... ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ کُونُوا عِباداً لي‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... (سوره نحل، آیه 52)ترجمه: هیچ کس (حتی پیامبر) حق ندارد به مردم بگوید به جای خدا مرا عبادت کنید.حدیث: روی الحلبی قلتُ لاَبی عبدالله علیه السلام ما أدنى ما یکون به العبد کافراً ؟ قال: « أن یبتدع به شیئاً فیتولى علیه ویتبرأ ممّن خالفه (معانی الاخبار ، ص 393)ترجمه: ... حلبی روایت می کند که از امام صادق (ع) پرسیدم : کمترین سبب کافر شدن انسان چیست؟ فرمودند : این‌که بدعتی بگذارد و از آن بدعت جانبداری کند و از هر کس با او مخالفت کند روی برگرداند و آنان را متهم و منزوی سازد.

ادامه مطلب

موسسه صراط مبین

نشانی : ایران - قم
صندوق پستی: 1516-37195
تلفن: 5-32906404 25 98+
پست الکترونیکی: این آدرس ایمیل توسط spambots حفاظت می شود. برای دیدن شما نیاز به جاوا اسکریپت دارید