الدرس‌ التاسع‌ عشر

الدرس‌ التاسع‌ عشر:

 استصحاب‌ عدالة‌ الفقيه‌ غير المرجع‌ في‌ زمان‌ مرجعيّته‌

 

أعُوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ

 

بِسْـمِ اللَهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِـيـمِ

وصلَّي‌ اللَهُ عَلَی سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ

ولَعْنَةُ اللَهِ عَلَی أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَی قِيامِ يَوْمِ الدِّين

ولاَ حَولَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَهِ العَلِي‌ِّ العَظِيمِ

 

 لا يمتلك‌ « التفسير المنسوب‌ إلی الإمام الحسن‌ العسكري‌ّ » علیه السلام‌ دعامة‌ لإثباته‌. فهو كأي‌ّ كتاب‌ يؤخذ من‌ المكتبة‌ ويكون‌ مكتوباً علی ه‌: هذا التفسير للإمام الحسن‌ العسكري‌ّ علیه السلام‌، مع‌ أنَّ الكتاب‌ الذي‌ ينسبه‌ شخص‌ آخر يجب‌ أن‌ يكون‌ ممتلكاً لما يدعم‌ ذلك‌، أي‌ يجب‌ أن‌ تكون‌ سلسلة‌ رواته‌ من‌ الاشخاص‌ الموثّقين‌، وإذا لم‌ يكونوا موثّقين‌ بشهادة‌ عدلين‌ فبشهادة‌ شخص‌ واحد علی الاقلّ.

 ونفس‌ محمّد بن‌ القاسم‌ الجُرجاني‌ّ ـراوي‌ هذه‌ الرواية‌ـ محلّ طعن‌ وقدح‌. وهو يروي‌ عن‌ شخصين‌: أحدهما يوسف‌ بن‌ زياد، والآخر علی بن‌ محمّد السيّار؛ وهما مجهولان‌، ولم‌ يرد لهما ذكر في‌ كتب‌ الرجال‌. فإمَّا أنـّهما لم‌ يكونا موجودين‌ أساساً وقد قام‌ سَهْل‌ بن‌ أحمد الديباجي‌ّ باختلاقهما، أو أنـّهما كانا موجودين‌ لكنّهما لم‌ يكونا من‌ الاشخاص‌ المعروفين‌. فقد نسب‌ محمّد بن‌ القاسم‌ الجرجاني‌ّ الرواية‌ إلی شخصين‌غير موجودين‌ أو مجهولي‌ الحال‌ وغير معروفين‌. وباختصار لم‌يرد اسماهما، وعدم‌ ورود الاسم‌ كافي‌ في‌ عدم‌ الاعتماد. وكان‌ هذين‌ الشخصين‌ يرويان‌ هذا التفسير عن‌ أبويهما، وأبواهما يرويانه‌ بدورهما عن‌ الإمام الحسن‌ العسكري‌ّ علیه السلام‌.

 وما أفاده‌ المرحوم‌ الحاجّ الميرزا حسين‌ النوري‌ّ قدّس‌ سرّه‌ من‌ أنَّ هذين‌ الشخصين‌ لم‌ يضعّفا في‌ الكتب‌ الرجاليّة‌ الاربعة‌ (« رجال‌ النجاشي‌ّ »، و « رجال‌ الكشّي‌ّ »، و « الفهرست‌ »، و « رجال‌ الطوسي‌ّ ») غير كافٍ. إذ إنَّ عدم‌التضعيف‌ وحده‌ لا يفيدنا. وإلاّ فهناك‌ الكثير من‌ الذين‌ لم‌ يُذكروا في‌ كتب‌ الرجال‌، أو أنـّهم‌ ذُكروا ولكنّهم‌ لم‌ يضعّفوا ولم‌ يوثّقوا، علی الرغم‌ من‌ وجوب‌ توثيقهم‌، لانَّ عدم‌ التوثيق‌ كافٍ في‌ ضعفهم‌. فلا تبقي‌ ثمّة‌ حاجة‌ لتضعيفهم‌ ليتم‌ قدحهم‌. فكلام‌ المرحوم‌ الحاجّ هذا غير تامّ أيضاً.

 وأمّا كون‌ المرحوم‌ الصدوق‌ قد نقل‌ روايات‌ عنهم‌ في‌ « من‌ لايحضره‌ الفقيه‌ » فذلك‌ أيضاً غير كافٍ، إذ من‌ الممكن‌ للإنسان‌ أن‌ ينقل‌ رواية‌ ويري‌ صحّتها وتوثيقها أيضاً علی أنـّها غير ذلك‌ واقعاً. فليست‌ كلّ رواية‌ موجودة‌ في‌ الكتب‌ الاربعة‌ قابلة‌ لان‌ يُعمل‌ بها، بل‌ يجب‌ تمييز الصحيح‌ من‌ السقيم‌. ولذا، لا يمكن‌ العمل‌ بجميع‌ أخبار « من‌ لا يحضره‌ الفقيه‌ » دونما تأمّل‌. هذا بالإضافة‌ إلی أنَّ الشيخ‌ والكليني‌ّ والآخرين‌ مثل‌ البرقي‌ّ في‌ « المحاسن‌ » لم‌ يوردوا روايات‌ هذا التفسير.

 فهذا التفسير من‌ الروايات‌ غير التامّة‌، وهو يختلف‌ عن‌ « كتاب‌ سُليم‌بن‌ قيس‌ الهلالي‌ّ » الذي‌ لو شوهد في‌ بعض‌ فقرات‌ نسخه‌ الحاليّة‌ مخالفة‌ في‌ الجملة‌ فاللازم‌ طرح‌ تلك‌ الفقرة‌ والعمل‌ بالبقيّة‌. فـ « كتاب‌ سُليم‌بن‌ قيس‌ » كتاب‌ معتبر، وينقل‌ عنه‌ كبار العلماء، كما أنَّ سُليم‌ شخص‌ معروف‌ وموثّق‌ ومأمون‌ لدي‌ الجميع‌ ـحتّي‌ عند العامّة‌ـ وهم‌ يذكرونه‌ بالتعظيم‌ والتجليل‌ والتوثيق‌، وكانوا يروون‌ عن‌ كتابه‌ طوال‌ هذه‌ القرون‌ المديدة‌. وهذا كافٍ في‌ إثبات‌ حجّيّة‌ ذلك‌ الكتاب‌.

 وأمّا مجرّد أن‌ يكتب‌ علی جلد كتاب‌: روي‌ الشخص‌ الفلاني‌ّ عن‌ الإمام الحسن‌ العسكري‌ّ علیه السلام‌، من‌ دون‌ أن‌ يكون‌ هناك‌ أي‌ّ دعامة‌ لذلك‌، فهذا ليس‌ قابلاً للقبول‌ علی الإطلاق‌.

 الرجوع الي الفهرس

بعض‌ الحوادث‌المختلقة‌والوقائع‌الكاذبة‌الموجودة‌في‌هذاالتفسير

 وهذا الكتاب‌ بحسب‌ نظري‌ موضوع‌ ومختلق‌ من‌ قبل‌ سهل‌ بن‌ أحمد الديباجي‌ّ. وقد صرّح‌ العلاّمة‌ الحلّي‌ّ أيضاً بهذا المعني‌، كما أنـّه‌ يحوي‌ علی كثير من‌ الموارد المخالفة‌ للواقع‌.

 ومن‌ تلك‌ الموارد أنـّه‌ ينقل‌ في‌ ذيل‌ آية‌:: فَأَنزَلْنَا عَلَی الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءٍ[8]، عن‌ قول‌ الإمام زين‌ العابدين‌ علیه السلام‌ رواية‌ عن‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌، أنَّ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیهوآله‌ وسلّم‌ قال‌: غلام‌ ثقفي‌ّ ـأي‌ المختار ـ يخرج‌ ويقتل‌ ثلاثمائة‌ وثمانين‌ شخصاً من‌ بني‌ أُميّة‌. وعندما وصل‌ هذا الكلام‌ إلی الحجّاج‌ بن‌ يوسف‌ الثقفي‌ّ قال‌: لم‌يصل‌ إلينا كلام‌ رسول‌ الله‌ هذا، ونحن‌ نشكّ بما يرويه‌ علی ‌ّ بن‌ أبي‌ طالب‌ عن‌ النبي‌ّ. وأمّا علی ‌ّ بن‌ الحسين‌ فصبي‌ّ مغرور، وكثيراً ما يتحدّث‌ بما لافائدة‌ فيه‌، وهو يغرّر أتباعه‌ من‌ هذا الطريق‌. آتوني‌ بالمختار.

 فقام‌ رجاله‌ بالبحث‌ عنه‌ حتّي‌ اعتقلوا المختار وأتوا به‌ إليه‌.

 فأجلس‌ الحجّاجُ المختارَ علی النطع‌، وأمر سيّافه‌ بقطع‌ رقبته‌، فرأي‌ السيّافين‌ قد ارتبكوا، فقال‌ لهم‌: لِمَ لَم‌ تضربوه‌؟ فقالوا: لقد أضعنا مفتاح‌ الخزانة‌ والسيف‌ موجود فيها. فالتفت‌ إلی أحد حجّابه‌ وقال‌ له‌: أعطه‌ سيفك‌ لكي‌ يقطع‌ رأسه‌. وعندما عمد إلی ضربه‌ أتاه‌ عقرب‌ فلدغ‌ السيّاف‌ ورماه‌ أرضاً. عندها قال‌ المختار: لا تقتلني‌ فإنَّ رسول‌ الله‌ أخبرني‌ بأنـّي‌ سأقتل‌ ثلاثمائة‌ وثلاثة‌ وثمانين‌ ألفاً من‌ بني‌ أُميّة‌، وإنـّي‌ سوف‌ أقتلهم‌. وقول‌ النبي‌ّ صحيح‌. وحتّي‌ لو قتلتني‌ فسوف‌ أحيي‌ مرّة‌ ثانية‌ وأقتل‌ ثلاثمائة‌ وثلاثة‌ وثمانين‌ ألفاً من‌ بني‌ أُميّة‌ وفقاً لكلام‌ النبي‌ّ.

 فأمر الحجّاج‌ شخصاً ثالثاً أن‌ يأتي‌ ويقتله‌، وعندما أراد أن‌ يقطع‌ عنقه‌ قال‌ له‌ المختار: لا تفعل‌ هذا. والتفت‌ إلی الحجّاج‌ وقال‌ له‌: إنّي‌ أُحبّ أن‌ تأتي‌ أنت‌ وتقطع‌ عنقي‌، وإذا قُمتَ بذلك‌ فإنَّ الله‌ سيسلّط‌ علی ك‌ أفعياً كما سلّط‌ علی ذلك‌ الشخص‌ الاوّل‌ عقرباً.

 فأمر الحجّاج‌ بإعدامه‌. وفجأة‌، وصل‌ رسول‌ من‌ ناحية‌ عبدالملك‌ بإطلاق‌ سراح‌ المختار، وسلّم‌ رسالته‌ إلی الحجّاج‌، ففتح‌ الحجّاج‌ الرسالة‌ وقد كُتِبَ فيها: أيّها الحجّاج‌! وصلتني‌ رسالتك‌ المرسلة‌ بواسطة‌ الحمام‌ ] الزاجل‌ [ وقد ذكرت‌ فيها أنـّك‌ سجنت‌ المختار وتريد قتله‌، فبمجرّد أن‌ تصلك‌ رسالتي‌ هذه‌ أطلِقْ سراحه‌، لانَّ زوجته‌ مرضعة‌ ابني‌ الوليد، وقد شفع‌ له‌ الوليد عندي‌. فتركه‌ الحجّاج‌ ونصحه‌ أن‌ يتخلّي‌ عن‌ هذه‌ الاعمال‌، وألاّ يحمل‌ نيّة‌ سوء ضدّ بني‌ أُميّة‌. فقال‌ له‌ المختار: إنّي‌ سأقوم‌ بعملي‌.

 ثمّ شرع‌ المختار بأعماله‌، فاعتقله‌ الحجّاج‌ مرّة‌ ثانية‌، وأتي‌ به‌ يريد قتله‌، فوصل‌ رسول‌ ثانٍ من‌ عبد الملك‌ وسلّمه‌ الامر بإطلاق‌ سراحه‌... إلی آخر الرواية‌ التي‌ ذكرت‌.

 وهناك‌ علائم‌ وأدلّة‌ كثيرة‌ ملحوظة‌ ومحسوسة‌ علی وضع‌ هذه‌ الرواية‌ الطويلة‌، وهذه‌ الشواهد مثل‌ إجلاس‌ شخص‌ علی النطع‌ لقتله‌، والإتيان‌ برسالة‌ أُخري‌ من‌ العراق‌ إلی الشام‌، ومجي‌ء جواب‌ الرسالة‌ من‌ الشام‌ إلی العراق‌ في‌ هذه‌ المدّة‌ الزمنيّة‌ القصيرة‌ ( الفترة‌ التي‌ كان‌ المختار فيها مسجوناً )، ومع‌ أنَّ هذه‌ المدّة‌ لا تقلّ عن‌ عشرة‌ أيّام‌ فكيف‌ يتأخّر قتل‌ المختار كلّ هذه‌ المدّة‌، علی الرغم‌ من‌ صدور الامر بقتله‌ فوراً، وكان‌ دأب‌ الحجّاج‌ القتل‌ الفوري‌ّ، لا الوساطة‌ وما إلی ذلك‌؟ فإذا تأمّل‌ الإنسان‌ في‌ هذه‌ الاُمور فسيري‌ أنَّ هذه‌ الرسالة‌ مختلقة‌ وكاذبة‌ من‌ أوّلها إلی آخرها، وأنَّ لاأصل‌ لها ولا أساس‌، لانَّ إمارة‌ الحجّاج‌ وسلطنة‌ عبد الملك‌ بن‌ مروان‌ كانت‌ بعد قتل‌ المختار بسنوات‌.

 فالمختار خرج‌ في‌ سنة‌ خمس‌ وستّين‌، وقتل‌ جماعة‌ من‌ مؤيّدي‌ بني‌ أُميّة‌، وسيطر بعده‌ علی العراق‌ مُصعَب‌ بن‌ الزُّبَير، وقُتِلَ المختار سنة‌ سبع‌ وستّين‌، وقام‌ مصعب‌ بحكم‌ العراق‌ سنوات‌ إلی أن‌ انتصرعليه‌عبدالملك‌ ابن‌مروان‌وسلّم‌ إمارة‌ العراق‌ سنة‌ خمس‌ وسبعين‌ إلی الحجّاج‌. فكان‌ بدء حكم‌ الحجّاج‌ للعراق‌ إذَن‌ بعد موت‌ المختار بثماني‌ سنوات‌.

 ونستنتج‌ من‌ هذا أنَّ هذه‌ الرواية‌ موضوعة‌، وأنَّ سهل‌ بن‌ أحمد الديباجي‌ّ لم‌ يكن‌ يعرف‌ التأريخ‌ أصلاً، وإلاّ لكان‌ قد تذكر تأريخ‌ هذه‌ الكذبة‌ الواضحة‌ علی الاقلّ، لكي‌ لا تسبب‌ اشتباهه‌ وتسقيطه‌. [9]

 علیهيمكننا أن‌ نلتفت‌ إلی مدي‌ معاناة‌ أئمّتنا علیهم السلام‌ وحجم‌ المظلوميّة‌ التي‌ عاشوها، فحتّي‌ زماننا هذا، توجد روايات‌ كثيرة‌ مثل‌ هذه‌ الرواية‌ ممّا تُنسب‌ إلی الائمّة‌ مع‌ أنـّها كذب‌ محض‌.

 ومع‌ ذلك‌ يتوجّب‌ علی نا أن‌ ننفي‌ مثل‌ هذه‌ الروايات‌ عن‌ الإمام علیه السلام‌ منكسرين‌ متذلّلين‌، ونجيب‌ بأنَّ مقام‌ الإمام المعصوم‌ مُنزّه‌ عن‌ نسبة‌ هكذا أُمور، بل‌ إنَّ هذه‌ الرواية‌ موضوعة‌ ومؤلّفة‌ علی أيدي‌ أُناس‌ عديمي‌ الإنصاف‌ وكذّابين‌ ووضّاعين‌، نظير محمّد بن‌ القاسم‌ الاسترآبادي‌ّ الذي‌ كان‌ مفسّراً في‌ جرجان‌، فأ لَّف‌ كتاباً ونسبه‌ للإمام علیه السلام‌ انتصاراً لنفسه‌ ولحزبه‌ وجماعته‌، علی الرغم‌ من‌ كون‌ تفسيره‌ مرفوضاً وعرضة‌ للطعن‌ والانتقاد.

 وعلي‌ هذا، فلا يمكن‌ العمل‌ بكلّ رواية‌ بمجرّد اتّصافها بعنوان‌ الرواية‌، بل‌ يجب‌ التحقيق‌ حولها ومعرفة‌ صحيحها من‌ سقيمها، وذلك‌ لوجود الكثير من‌ الروايات‌ الموضوعة‌. [10]

 وبحثنا حاليّاً هو في‌ ولاية‌ الفقيه‌، وإلاّ لكنّا تابعنا الحديث‌ حول‌ عدم‌ حجّيّة‌ « التفسير المنسوب‌ للإمام العسكري‌ّ » علیه السلام‌ إلی أن‌ نتوصّل‌ إلی أمر جديد، وبما أنَّ موضوع‌ البحث‌ لا يقتضي‌ ذلك‌ فإنّنا نتجاوز ذلك‌ المورد، وسوف‌ نبحثه‌ في‌ محلّه‌ المناسب‌ بتوفيق‌ الله‌ تعالي‌.

 وكلّ ما عرضناه‌، كان‌ بحثاً عن‌ سند الرواية‌.

 أمّا البحث‌ من‌ ناحية‌ الدلالة‌: فمُفاد هذه‌ الرواية‌ «فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الفُقَهَاءِ» راجع‌ إلی التقليد فقط‌. وربّما أمكن‌ استفادة‌ القضاء منها أيضاً، ولكن‌ لايمكن‌ الاستدلال‌ بها علی ولاية‌ الفقيه‌، وقد أوردناها هنا لكي‌ نبحث‌ في‌ أطرافها، لا لكي‌ نثبت‌ ولاية‌ الفقيه‌ بواسطتها، حيث‌ إنّنا قد نذكر الكثير من‌ الروايات‌ التي‌ تكون‌ نتيجتها آخر الامر عدم‌ الدلالة‌ علی ولاية‌ الفقيه‌.

 وبما أنـّه‌ قد شوهد في‌ كلام‌ البعض‌ الاستدلال‌ بهذه‌ الرواية‌ علی ولاية‌ الفقيه‌، فيجب‌ البحث‌ حولها من‌ أجل‌ توضيح‌ أطرافها وجوانبها، واستنتاج‌ ـفيما بعدـ هل‌ تدلّ الرواية‌ علی ولاية‌ الفقيه‌ أم‌ لا؟

 والجملة‌ التي‌ وردت‌ في‌ الرواية‌: مَنْ كَانَ مِنَ الفُقَهَاءِ صَائِناً لِنَفْسِهِ؛ جملة‌ حسنة‌ جدّاً.

 ويقول‌ المرحوم‌ الشيخ‌ أيضاً: إنَّ آثار الصدق‌ ظاهرة‌ منها، وأصل‌ الرواية‌ ومضمونها مضمون‌ رشيق‌ وعالٍ. ومن‌ المحتمل‌ جدّاً أنَّ واضع‌ التفسير قد أخذ مقداراً من‌ هذه‌ الروايات‌ الصحيحة‌ التي‌ وردت‌ عن‌ الائمّة‌ أو عن‌ الإمام الحسن‌ العسكري‌ّ علیه السلام‌ وأضافها إلی مختلقاته‌ لتصبح‌ مجموعة‌ واحدة‌. ولذا فالمتن‌ متن‌ جيّد.

 ويفيد قوله‌ علیه السلام‌: صَائِناً لِنَفْسِهِ، وَحَافِظاً لِدِينِهِ، بأنَّ الفقيه‌ يجب‌ أن‌ يكون‌ ممتلكاً لورع‌ وتقوي‌ باطنيّين‌ يكونان‌ فوق‌ مرتبة‌ العدالة‌ يحفظانه‌ عن‌ الميل‌ إلی الدنيا والرئاسة‌ والحكومة‌ والقضاء والامر والنهي‌ وجميع‌ هذه‌ المسائل‌، ومن‌ حصول‌ أدني‌ اضطراب‌ في‌ قلبه‌.

 وبشكل‌ عامّ، فيجب‌ أن‌ لا يظهر عند الحكّام‌ الذين‌ يمتلكون‌ منصب‌ الحكومة‌، والفقهاء أصحاب‌ الولاية‌، أي‌ّ تزلزل‌ قلبي‌ّ بسبب‌ الامر والنهي‌، وعليهم‌ أن‌ لا يترفّعوا عن‌ أمكنتهم‌، وأن‌ لا يتعالوا علی سائر الناس‌، وعليهم‌ أن‌ يعلموا أنـّهم‌ سوف‌ يحاسبون‌ علی جميع‌ الاموال‌ التي‌ تصل‌ إليهم‌ وتقسّم‌ بواسطتهم‌، فهم‌ وإن‌ مُنحوا حقّ التصرّف‌ فيها، لكنَّ الله‌ تعالي‌ سوف‌ يؤاخذهم‌ علی ها.

 وتُنقل‌ رواية‌ عن‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ حول‌ عقد كان‌ في‌ بيت‌ المال‌، وقد رآه‌ الإمام في‌ عنق‌ إحدي‌ بناته‌. ينقل‌ العامّة‌ هذه‌ الرواية‌ بشكل‌ عجيب‌ جدّاً عن‌ أبي‌ رافع‌ الذي‌ كان‌ خازناً لاميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌؛ يقول‌ فيها: إنَّ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ رأي‌ يوماً عقداً من‌ بيت‌ المال‌ في‌ عنق‌ إحدي‌ بناته‌، وكان‌ الإمام يعلم‌ أنَّ ذلك‌ العقد ملك‌ لبيت‌ المال‌، فما أن‌ رآه‌ حتّي‌ تغيّر لونه‌ وقال‌: لماذا يُلبس‌ هذا العقد؟ والله‌ إنّي‌ سأقطع‌ يد هذه‌ البنت‌، إذ إنّها قد سرقت‌.

 يقول‌ أبو رافع‌: لقد شعرت‌ بالخوف‌ من‌ هذا الكلام‌، وذلك‌ لانـّي‌ أعرف‌ أنَّ علی اً علیه السلام‌ عندما يتكلّم‌ بكلام‌ لا يتنازل‌ عنه‌، كما رأيت‌ تغيّر حاله‌، ولذا جئت‌ إليه‌ وشفعت‌ عنده‌ في‌ ابنته‌ تلك‌ قائلاً: يا أميرالمؤمنين‌! قد أعطيته‌ أنا لبنت‌ أُختي‌، وكانت‌ تلبسه‌ في‌ عنقها، ومن‌ ثمّ أخذته‌ منها ابنتك‌ واستعملته‌، فمفتاح‌ بيد المال‌ بيدي‌، ومن‌ الذي‌ يستطيع‌ الدخول‌ إليه‌ من‌ غير إذني‌ ليأخذ العقد؟ ولذا تنازل‌ أميرالمؤمنين‌ شيئاً ما.

 وأمّا الخاصّة‌ فيقولون‌ إنَّه‌ رأي‌ أميرالمؤمنين‌ في‌ أحد الاعياد عقداً في‌ عنق‌ إحدي‌ بناته‌، كانت‌ قد أخذته‌ تلك‌ البنت‌ كعارية‌ مضمونة‌ من‌ بيت‌ المال‌، وكان‌ خازن‌ بيت‌ المال‌ أبو رافع‌ أيضاً. وقد غضب‌ الإمام من‌ هذا العمل‌، وطالبها بالسبب‌ في‌ استعارتها له‌ قائلاً: لو كان‌ هذا العمل‌ جائزاً فلافرق‌ بينك‌ وبين‌ البنات‌ الاُخريات‌، وأنت‌ لم‌ تحصلي‌ علی إذْن‌ بهذا العمل‌. ثمّ هدّد أبا رافع‌ ناهياً إيّاه‌ أن‌ يصدر منه‌ عمل‌ كهذا مرّة‌ أُخري‌. هذا هو أميرالمؤمنين‌.

 الرجوع الي الفهرس

تتمة النص

      

ارجاعات

[1] ـ الآية‌ 69، من‌ السورة‌ 29: العنكبوت‌.

[2] ـ «مُنيةُ المُريد» ص‌ 80، الطبعة‌ الحجريّة‌.

[3] ـ «بحار الانوار» ج‌ 1، ص‌ 225، الطبعة‌ الحروفيّة‌، كلام‌ الإمام جعفر الصادق‌ عليه‌ السلام‌ ضمن‌ مقالة‌ مطوّلة‌ قد بيّنها الإمام للبصري‌ّ بعنوان‌ الموعظة‌. والرواية‌ بناء علي‌ ما نقله‌ المجلسي‌ّ رحمة‌ الله‌ عليه‌، بخطّ الشيخ‌ البهائي‌ّ قدّس‌ الله‌ روحه‌، عن‌ الشيخ‌ شمس‌الدين‌ محمّدبن‌ مكّي‌ّ (الشهيد الاوّل‌) نقلاً عن‌ خطّ الشيخ‌ أحمد الفراهاني‌ّ مرسلاً عن‌ عنوان‌ البصري‌ّ.

[4] ـ خاتمة‌ «مستدرك‌ الوسائل‌» الفائدة‌ الخامسة‌، ص‌ 661 إلي‌ 664.

[5] ـ المقصود من‌ السيّد المعاصر هو السيّد محمّد هاشم‌ الخوانساري‌ّ رحمة‌الله‌ عليه‌ في‌ «رسالة‌ في‌ تحقيق‌ حال‌ الكتاب‌ المعروف‌ بفقه‌ الرضا» ص‌ 7.

[6] ـ في‌ هذا التفسير، ذيل‌ الآية‌: فَأَنزَلْنَا عَلَي‌ الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَآء (جزء من‌ الآية‌ 59، من‌ السورة‌ 2: البقرة‌)، ينقل‌ محمّدبن‌ القاسم‌ الجرجاني‌ّ عن‌ يوسف‌ بن‌ زياد، وعن‌ علي‌ّبن‌ محمّد السيّار، وكلّ منهما عن‌ أبيه‌، عن‌ الإمام الحسن‌ العسكري‌ّ عليه‌ السلام‌، عن‌ قول‌ الإمام زين‌ العابدين‌ عليه‌ السلام‌، عن‌ أميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ أنَّ رسول‌ الله‌ صلّي‌الله‌ عليه‌ وآله‌ قال‌ (ما مضمونه‌): يخرج‌ غلام‌ ثقفي‌ّ، ـأي‌: المختار بن‌ أبي‌ عبيدة‌ الثقفي‌ّـ ويقتل‌ ثلاثمائة‌ وثلاث‌ وثمانين‌ شخصاً من‌ بني‌ أُميّة‌. فوصل‌ هذا الخبر إلي‌ الحجّاج‌ فقال‌: لم‌يصلنا كلام‌ رسول‌ الله‌ هذا، ونحن‌ نشكّ فيما يرويه‌ علي‌ّ بن‌ أبي‌ طالب‌ عن‌ النبي‌ّ. وأمّا علي‌ّبن‌ الحسين‌ فصبي‌ٌّ مغرور، كثيراً ما يتكلّم‌ فيما لا طائل‌ تحته‌، ويخدع‌ أتباعه‌ بذلك‌. اطلبوا لي‌ المختار. فبحثوا عن‌ المختار وأمسكوه‌ وجاؤوا به‌ إليه‌ وأجلسوه‌ علي‌ النطع‌. فقال‌ الحجّاج‌: اضربوا عنقه‌! وهنا قصّة‌ طويلة‌ جدّاً وهي‌ مختلقة‌ من‌ أوّلها إلي‌ آخرها، وآثار الوضع‌ والجعل‌ فيها ملحوظة‌ من‌ عدّة‌ جهات‌، وهي‌ شبيهة‌ بأعاجيب‌ القصص‌ والاساطير المصنوعة‌. فالقصّة‌ مختلقة‌ علي‌ التحقيق‌، لانَّ إمارة‌ الحجّاج‌ وسلطنة‌ عبد الملك‌ بن‌ مروان‌ علي‌ العراق‌ كانت‌ بعد مقتل‌ الحجّاج‌ بسنوات‌ طويلة‌. وعندما صار عبد الملك‌ خليفة‌ وصار الحجّاج‌ أميراً علي‌ العراق‌ من‌ قِبَلِه‌ كان‌ قد مضي‌ سنوات‌ علي‌ مقتل‌ المختار، وكانت‌ عظامه‌ قد شارفت‌ علي‌ الاهتراء. فقد خرج‌ المختار سنة‌ 65 وقام‌ بقتل‌ جماعة‌ من‌ أتباع‌ بني‌ أُميّة‌، وسيطر بعده‌ مصعب‌ بن‌ الزبير علي‌ العراق‌ وقتل‌ المختار سنة‌ 67، وحكم‌ العراق‌ لعدّة‌ سنوات‌ إلي‌ أن‌ انتصر عليه‌ عبد الملك‌ بن‌ مروان‌ وقتله‌، وسلّم‌ إمارة‌ العراق‌ وحكمه‌ للحجّاج‌ سنة‌ 75. فكان‌ بدء حكومة‌ الحجّاج‌ بعد موت‌ المختار بعشر سنوات‌.

[7] ـ «الذريعة‌ إلي‌ تصانيف‌ الشيعة‌» ج‌ 4، ص‌ 285.

[8] ـ قسم‌ من‌ الآية‌ 59، من‌ السورة‌ 2: البقرة‌.

[9] ـ ثمّ ما معني‌ الرقم‌ ثلاثمائة‌ وثلاثة‌ وثمانين‌ ألفاً من‌ بني‌ أُميّة‌؟ وعددهم‌ في‌ ذلك‌ الوقت‌ لم‌ يتجاوز عدّة‌ آلاف‌! وجيشهم‌ دون‌ ذلك‌؟! والمختار لم‌ يقتل‌ مثل‌ هذا العدد. ولا يمكن‌ حمل‌ هذا العدد علي‌ المبالغة‌، مثل‌ العدد سبعين‌، بسبب‌ ذكر عدده‌ القليل‌ المتمّم‌ له‌، وهو ثلاثة‌ آلاف‌ بعد ذكر الثلاثمائة‌ وثمانين‌ ألفاً. وكيف‌ يخلو بلاط‌ الحجّاج‌ مع‌ من‌ كان‌ يحيطه‌ من‌ السيف‌، وأن‌ يكون‌ سيف‌ السيّاف‌ في‌ الخزانة‌؟! وكيف‌ ضاع‌ مفتاح‌ الخزانة‌ وليس‌ هناك‌ من‌ سيف‌ آخر؟ وتلك‌ العقرب‌ والافعي‌ وذلك‌ الاءغماء ودخول‌ السيف‌ في‌ بطن‌ الضارب‌، كلّ ذلك‌ أقرب‌ إلي‌ قصص‌ الضاربين‌ بالرمل‌ وحكايات‌ أهل‌ الفكاهة‌ منه‌ إلي‌ الوقائع‌ التأريخيّة‌ الواقعة‌.

[10] ـ وكَتَبَ علماء الشيعة‌ قصصاً كثيرة‌ حول‌ الوضع‌ والكذب‌ في‌ الروايات‌، وأوردوا مطالباً نافعة‌. كما أنَّ بعض‌ محقّقي‌ العامّة‌ أيضاً قد أوردوا أبحاثاً مفيدة‌ في‌ ذلك‌، ومن‌ أجودها وأحسنها كتاب‌ «أضواء علي‌ السُّنَّة‌ المحمّديّة‌» للشيخ‌ أبو ريّة‌، العالم‌ الخبير والمتضلّع‌ والبصير والمنصف‌ الشهم‌، حيث‌ أزاح‌ في‌ كتابه‌ الستار عن‌ كثير من‌ جرائم‌ الحديث‌، وضعّف‌ أُسس‌ وبناء أُصول‌ العامّة‌ وأهل‌ السنّة‌ وكتبهم‌. ومن‌ اللازم‌ لطلاّب‌ العلوم‌ الدينيّة‌ مطالعة‌ الكتاب‌ والتدقيق‌ في‌ جميع‌ محتوياته‌، لزيادة‌ الخبرة‌ والبصيرة‌ في‌ تحوّل‌ الرواية‌، وعدم‌ الاعتماد علي‌ حديث‌ وفقه‌ العامّة‌.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب ولاية الفقيه/ المجلد الثالث/ القسم الخامس: المؤاخذة علی مصارف بیت المال، وجوب الرجوع الی الاعلم

موقع علوم و معارف الإسلام الحاوي علي مجموعة تاليفات سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني قدس‌سره

 

 

 

      

الصفحة السابقة

نقل‌ منام‌ عن‌ آية‌ الله‌ الخوئي‌ّ حول‌ المؤاخذة‌ علی مصارف‌ بيت‌ المال‌

 في‌ الايّام‌ التي‌ كنت‌ فيها متشرّفاً بالسكن‌ في‌ النجف‌ الاشرف‌ لاجل‌ إكمال‌ التحصيل‌، كنت‌ أحضر أحد دروس‌ الاُصول‌ عند آية‌ الله‌ العظمي‌ الحاجّ السيّد أبي‌ القاسم‌ الخوئي‌ّ دامت‌ بركاته‌ العالية‌، وفي‌ أحد الايّام‌ واجهت‌ إشكالاً في‌ الدرس‌، وكان‌ الوقت‌ بعد مضي‌ حوالي‌ أربع‌ ساعات‌ من‌ الظهر، والطقس‌ حارّ جدّاً، فأتيت‌ إلی منزله‌ من‌ أجل‌ السؤال‌ عن‌الإشکال، وكان‌ في‌ ذلك‌ الوقت‌ يسكن‌ في‌ منزله‌ الاوّل‌ الذي‌ كان‌ وقفاً، ويبعد قليلاً عن‌ الحرم‌، فطرقت‌ باب‌ المنزل‌، فجاء بنفسه‌ وفتح‌ لي‌ الباب‌ وأدخلني‌ إلی داخل‌ البيت‌ وأكرمني‌، وكان‌ من‌ الواضح‌ أنـّه‌ قد خرج‌ توّاً من‌ السرداب‌، وجلس‌ في‌ ذلك‌ الجوّ الحارّ في‌ المنزل‌ تحت‌ سقف‌ الإيوان‌ ( بعض‌ منازل‌ النجف‌ لها إيوان‌ يكون‌ له‌ سقف‌ بصورة‌ شبّاك‌ لمنع‌ الحرارة‌ ) فجلست‌ هناك‌، وسألته‌ عن‌ إشكالاتي‌، وسمعت‌ أجوبتها. وقد كان‌ في‌ ذلك‌ اليوم‌ وحيداً في‌ المنزل‌، ولذا طال‌ المجلس‌ قليلاً، ونقل‌ لي‌ أُموراً كثيرة‌.

 من‌ جملتها أنـّه‌ قال‌ لي‌: بعد وفاة‌ المرحوم‌ آية‌ الله‌ السيّد أبي‌ الحسن‌ الإصفهاني‌ّ رأيت‌ في‌ عالم‌ الرؤيا كأنـّي‌ في‌ طهران‌ في‌ منزل‌ الحاجّ الشيخ‌ محمّد حسين‌ الخراساني‌ّ، والد المرحوم‌ الشيخ‌ أبي‌ الفضل‌ الخراساني‌ّ، وجدّ الحاجّ الشيخ‌ محسن‌ الخراساني‌ّ ( الذي‌ هو حاليّاً من‌ علماء طهران‌، وهو رجل‌ محترم‌ جدّاً، وهو صهر المرحوم‌ السيّد محمّد جمال‌ ابن‌ المرحوم‌ آية‌الله‌ الحاجّ السيّد جمال‌ الدين‌ الگلبايگاني‌ّ. وكنت‌ قد تشرّفت‌ بلقاء أبيه‌ مراراً، وهو رجل‌ جليل‌ جدّاً، لكنّي‌ لم‌ أدرك‌ المرحوم‌ الحاجّ محمّدحسين‌ وذلك‌ لانـّه‌ قد توفّي‌ قبل‌ ذلك‌ ).

 قال‌ آية‌ الله‌ الخوئي‌ّ مدّ ظلّه‌ العالي‌: رأيت‌ في‌ المنام‌ كأنـّي‌ في‌ منزل‌ الشيخ‌ محمّد حسين‌ الخراساني‌ّ في‌ طهران‌، وكان‌ من‌ المقرّر أن‌ يأتي‌ السيّد أبو الحسن‌ الإصفاني‌ّ إلی هناك‌ أيضاً، ولم‌ يمضِ من‌ الوقت‌ شي‌ء يذكر حتّي‌ جاء السيّد أبو الحسن‌ وجلس‌، ثمّ انشغل‌ بالحديث‌ مع‌ الشيخ‌ محمّدحسين‌، فتعجّبت‌ من‌ أنـّه‌ إذا أراد أن‌ يأتي‌ من‌ النجف‌ إلی طهران‌ فعليه‌ أن‌ يأتي‌ مع‌ مقدّمات‌ كثيرة‌ وصرف‌ وقت‌ وتشريفات‌ واستقبال‌ لائق‌، فكيف‌ أتي‌ من‌ دون‌ ضجيج‌ ولا مقدّمات‌، ودون‌ أن‌ يلتفت‌ أحد إلی ذلك‌ أيضاً؟!

 رأيت‌ أن‌ لا فائدة‌ من‌ تعجّبي‌، فهو حاضر وجالس‌ ويتكلّم‌ مع‌ الشيخ‌ محمّدحسين‌ الخراساني‌ّ. وفي‌ أثناء الحديث‌ أشار السيّد أبو الحسن‌ إلی الجهة‌ المقابلة‌ له‌ التي‌ كانت‌ قفراً تشبه‌ تلّة‌ كبيرة‌ مثل‌ الجبل‌، وقد جمع‌ فيها النقود والامتعة‌ والاثاث‌ فقط‌، وكان‌ مقدارها كبيراً جدّاً، وقال‌ للشيخ‌ محمّدحسين‌: هل‌ تري‌؟ هذه‌ الاموال‌ هي‌ التي‌ أعطيتها في‌ زمن‌ مرجعيّتي‌ إلی الوكلاء الذين‌ كانت‌ عندهم‌ وكالة‌ منّي‌ في‌ جميع‌ أنحاء العالم‌ وفي‌ مختلف‌ المناطق‌، وهم‌ قد صرفوها من‌ سهم‌ الإمام ومن‌ الوجوه‌ الشرعيّة‌. فهذه‌ هي‌ الاموال‌ والآن‌ يريدون‌ أن‌ يحاسبونني‌ علی ها جميعاً. فقلت‌ للسيّد الخوئي‌ّ عندئذٍ: حسناً؛ فما تفعلونه‌ الآن‌ أنتم‌؟ هذه‌ هي‌ حال‌ وقضيّة‌ السيّد أبي‌ الحسن‌ الإصفهاني‌ّ، أفلا تعطون‌ أنتم‌ من‌ هذه‌ للوكلاء؟ فقال‌: إنّي‌ أعمل‌ بنحو آخر وهو أنـّي‌ لغاية‌ الآن‌ لم‌ أعطِ أحداً وكالة‌، إنَّما أُعطي‌ إذْناً في‌ الاستفادة‌ من‌ هذه‌ الاموال‌، والإذن‌ بخلاف‌ الوكالة‌ ولا مسؤوليّة‌ فيه‌.

 وبالطبع‌ لم‌ يذكر السيّد الخوئي‌ّ تفسيراً لهذا المعني‌، لانَّ مراده‌ معلوم‌ إذ إنَّ الوكالة‌ نحو من‌ النيابة‌، فالإنسان‌ عندما يوكّل‌ شخصاً فهذا معناه‌ أنـّه‌ نائب‌ عنه‌، وعمل‌ الوكيل‌ عين‌ عمل‌ الموكِّل‌، كما أنَّ عمل‌ النائب‌ عين‌ عمل‌ المنوب‌ عنه‌.

 ولذا، فعمل‌ الوكلاء بسبب‌ الإجازات‌ المعطاة‌ إليهم‌ من‌ قبل‌ الفقيه‌ محسوب‌ علی ذلك‌ الفقيه‌، أمَّا إذا لم‌ ينشي‌ الفقيه‌ هذا التنزيل‌ والنيابة‌ واقتصر علی قول‌: إنّي‌ أُعطيكم‌ إذْناً بأن‌ تتصرّفوا بالمال‌ بالشكل‌ الفلاني‌ّ، فليس‌في‌ هذا مسؤوليّة‌ الوكالة‌.

 الرجوع الي الفهرس

مسؤوليّة‌ التوكيل‌ والإذْن‌ في‌ التصرّف‌ علی المجتهد واحدة‌

 لكنَّ الظاهر أنـّه‌ ليس‌ هناك‌ أي‌ّ فرق‌ بين‌ الإذن‌ والوكالة‌، والإشكال‌ في‌ الإذن‌ نفس‌الإشکال في‌ الوكالة‌، لانـّه‌ وإن‌ لم‌ يكن‌ في‌ مسألة‌ الإذن‌ عنوان‌ تنزيل‌ ونيابة‌ عن‌ الشخص‌ وليس‌ تصرّفاً عن‌ الشخص‌ الآذن‌، ولكن‌ إنَّما يكون‌ الإذن‌ حينما يكون‌ عمل‌ الشخص‌ محتاجاً إليه‌ ولا يتمّ من‌ دونه‌، إذ لا معني‌ للإذن‌ لمن‌ يصحّ له‌ القيام‌ بعمل‌ بدون‌ إذن‌.

 وإنّما يكون‌ العمل‌ صحيحاً حيث‌ يكون‌ إتيان‌ العمل‌ في‌ الخارج‌ مشروطاً به‌، ولا يتمّ ما لم‌ يكن‌ الشخص‌ مأذوناً. وبعبارة‌ أُخري‌: الإذن‌ هو الجزء الاخير من‌ العلّة‌ التامّة‌.

 فمثلاً، لو أراد إنسان‌ أن‌ يعطي‌ مالاً لفقير فلا يتمّ ذلك‌ إلاّ بحصول‌ شروط‌ معيّنة‌ في‌ الخارج‌، مثل‌: وجود المال‌ في‌ الخارج‌، وجود الفقير، ومن‌ ثمّ رغبة‌ وإرادة‌ الإنسان‌ بالإعطاء، ليتمّ إعطاء ذلك‌ المال‌ إلی الفقير. فالإرادة‌ إذَن‌ هي‌ الجزء الاخير من‌ العلّة‌ التامّة‌.

 وهكذا بالنسبة‌ للإذن‌، أي‌ أنَّ العمل‌ لا يتمّ في‌ الخارج‌ من‌ دونه‌. وبناء علیه، فمسؤوليّة‌ الإذن‌ هي‌ نفس‌ مسؤوليّة‌ الوكالة‌، لانَّ النتيجة‌ واحدة‌ وهي‌ التصرّف‌ في‌ أموال‌ بيت‌ المال‌ التي‌ جعلها الله‌ تعالي‌ منوطة‌ بإذْن‌ المعصوم‌ والشخص‌ المتولّي‌ علی أرواح‌ الناس‌ وأموالهم‌ من‌ قِبل‌ المعصوم‌، فإذا تحقّق‌ ذلك‌ في‌ مورد ما فحسابه‌ يكون‌ في‌ عهدة‌ المعصوم‌ أو المنصوب‌ من‌ قبله‌.

 وعلي‌ هذا الاساس‌ فليس‌ هناك‌ أي‌ّ تفاوت‌ بين‌ الإذن‌ والوكالة‌ من‌ الناحية‌ الواقعيّة‌. إنَّما الفرق‌ بينهما فرق‌ مفهومي‌ّ. وأمَّا بالحمل‌ الشائع‌ الصناعي‌ّ والمصداق‌ الخارجي‌ّ فهو عمل‌ يقع‌ بالخارج‌ ويرتبط‌ بشخص‌ الآذن‌ والموكّل‌، ولا تفاوت‌ فيه‌ من‌ ناحية‌ المسؤوليّة‌ أبداً.

 الرجوع الي الفهرس

نفس‌ الإنسان‌ قابلة‌ للتغيّر ما لم‌ ترسخ‌ فيها العلوم‌ الباطنيّة‌

 والمطلب‌ المهمّ الآخر هنا هو: أنَّ كثيراً من‌ الاشخاص‌، وقبل‌ وصولهم‌ إلی المرجعيّة‌، كانوا من‌ الطاهرين‌ الافاضل‌ والعدول‌ والمتّقين‌ والمقدّسين‌، حتّي‌ شوهد من‌ بعضهم‌ أنـّهم‌ كانوا يسيرون‌ برفق‌ أثناء صعودهم‌ ونزولهم‌ عبر سلالم‌ المدرسة‌ لكي‌ لا تستهلك‌ تلك‌ السلالم‌ والاحجار بسبب‌ كثرة‌ السير علی ها، فكانت‌ دقّة‌ تصرّفهم‌ في‌ أموال‌ الاوقاف‌ إلی هذا الحدّ. ولكنّهم‌ بعد وصولهم‌ إلی المرجعيّة‌ ارتكبوا إلی ما شاءالله‌ من‌ الالاعيب‌ المثيرة‌ للقلق‌ الشديد، التي‌ تجعل‌ الإنسان‌ يشكّ في‌ أنَّ هذا الشخص‌، هل‌ هو نفس‌ ذلك‌ الشخص‌ المحتاط‌ أم‌ أنـّه‌ شخص‌ آخر؟!

 غالباً ما يُشاهد أشخاص‌ يتحدّثون‌ قبل‌ أن‌ يصلوا إلی الرئاسة‌ والحكم‌ عن‌ لزوم‌ حصول‌ بعض‌ التغييرات‌ وضرورة‌ إصلاح‌ أمر الطلاّب‌، وتوجّههم‌ نحو الاخلاق‌ والزهد والعرفان‌، ولزوم‌ تدريس‌ القرآن‌. وعندما يصلون‌ إلی السلطة‌ ينسون‌ هذه‌ الاُمور بشكل‌ كامل‌، فلا يُقام‌ درس‌ أخلاق‌، ولايُهتمّ بأُمور الضعفاء والمساكين‌. وهذا بحسب‌ تجربتنا لا ينحصر بمورد أو موردين‌، بل‌ شوهدت‌ له‌ موارد كثيرة‌ جدّاً.

 فما علّة‌ هذا الامر؟ وما الذي‌ يمكن‌ أن‌ يكون‌ السبب‌ الواقعي‌ّ في‌ ذلك‌؟ فهل‌ قد تغيّرت‌ ماهيّة‌ هؤلاء الناس‌ حقيقة‌؟ وهل‌ يكون‌ الفقيه‌ بعد المرجعيّة‌ شخصاً آخر غير ذلك‌ الفقيه‌ الذي‌ كان‌ قبلها؟ أم‌ أنَّ هناك‌ سبباً آخر؟

 وجواب‌ هذه‌ المسألة‌ هو: أنَّ طبيعة‌ الإنسان‌ تتلوّن‌ بسرعة‌، وسريعاً ما تتعرّف‌ نفس‌ الإنسان‌ علی ما يحيط‌ بها فتتأثّر به‌، ويؤثّر علی ها الكلام‌. والخلاصة‌، أنَّ الإنسان‌ سريعاً ما يقع‌ تحت‌ التأثير. وهؤلاء الاشخاص‌ قد كانوا واقعاً طاهرين‌ ومتّقين‌ ومقدّسين‌ ويعيشون‌ ببساطة‌، ولكن‌ ما أن‌ وصلوا إلی مقام‌ الرئاسة‌، وهجمت‌ علی هم‌ الاموال‌ من‌ النواحي‌ والاطراف‌، وصار يؤخذ منهم‌ التكليف‌ في‌ المسائل‌، ويصدر الامر والنهي‌ عنهم‌ بفعل‌ الشي‌ء الفلاني‌ّ وترك‌ الشي‌ء الفلاني‌ّ، فعندئذٍ صاروا يرون‌ أنفسهم‌ في‌ أُفق‌ آخر، ويلاحظون‌ أنفسهم‌ أساساً من‌ خلال‌ إحساس‌ كبير بالذات‌ وبالمحوريّة‌. ولازم‌ ذلك‌ القيام‌ بالامر والنهي‌ علی أساس‌ ولاية‌ وهميّة‌ ومصطنعة‌، وصاروا يحدّثون‌ أنفسهم‌ بأنَّ هذه‌ التصرّفات‌ جائزة‌ لهم‌ من‌ باب‌ الولاية‌. وهذه‌ المسألة‌ من‌ المسائل‌ المهمّة‌ جدّاً.

 كان‌ سعر عَقْد زوجة‌ عثمان‌ ( نائلة‌ بنت‌ فَراضة‌ ) بمقدار ثلث‌ خراج‌ إفريقيا. فعثمان‌ هذا هو غير عثمان‌ الاوّل‌، ومن‌ المسلّم‌ أنـّه‌ قد تغيّر. نعم‌؛ صحيح‌ أنـّه‌ لم‌ يكن‌ زاهداً وعابداً منذ البداية‌ أيضاً، لكنّه‌ لم‌ يكن‌ بهذه‌ الدرجة‌ من‌ الخباثة‌ كذلك‌. فينبغي‌ أن‌ لا نظنّ أنَّ هؤلاء الاشقياء هم‌ أشقياء بالذات‌ وقد ختم‌ علی هم‌ بذلك‌، وهم‌ مجبورون‌ علی الذنب‌، بل‌ إنَّهم‌ ساروا في‌ طريق‌ الشقاوة‌ باختيارهم‌، لانـّهم‌ في‌ بعض‌ الظروف‌ يكونون‌ من‌ المقدّسين‌ المؤمنين‌ المتديّنين‌، لكنّهم‌ يميلون‌ مع‌ الظروف‌ فيتغيّرون‌ مع‌ تغيّرها! [1].

 لاحظوا مثلاً أنـّه‌ عندما تكون‌ هناك‌ أُختان‌ تعيشان‌ في‌ منزل‌ واحد مع‌ بعضهما، فتكون‌ المحبّة‌ بينهما إلی درجة‌ تستعدّ إحداهما للموت‌ في‌ سبيل‌ الاُخري‌، وإذا مرضت‌ إحداهما تريد الاُخري‌ أن‌ تقتل‌ نفسها لاجلها، لكن‌ حين‌ توافي‌ المنيّة‌ الاب‌ ويرتحل‌ عن‌ هذه‌ الدنيا، ويأتي‌ الحديث‌ عن‌ تقسيم‌ الميراث‌، ويصير الكلام‌ حول‌ حقّي‌ وحقّك‌، تتبدلّ تلك‌ الحالة‌ شيئاً فشيئاً ويظهر التكدّر.

 ويصل‌ هذا التكدّر إلی درجة‌ أن‌ تتمنّي‌ هذه‌ الاُخت‌ وفاة‌ أُختها مع‌ أنـّها كانت‌ في‌ حياة‌ أبيها تفديها بنفسها!

 وهذه‌ مسألة‌ مهمّة‌ جدّاً وتفتح‌ للإنسان‌ الكثير من‌ أبواب‌ المعارف‌ وتوصله‌ إلی أُمور كثيرة‌.

 الرجوع الي الفهرس

علي‌ الحاكم‌ تجاوز الجزئيّة‌ والاتّصال‌ بالكلّيّة‌

 ولذا، يقول‌ الشيعة‌: يجب‌ أن‌ يكون‌ الحاكم‌ معصوماً. وهذا هو أساس‌ الإمامة‌ عندهم‌. يجب‌ أن‌ يكون‌ هناك‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ وإلاّ كانت‌ الحكومة‌ حكومة‌ غير دينيّة‌. وكذلك‌ الشخص‌ الذي‌ يرتبط‌ به‌ علیه السلام‌ فيجب‌ ـوكما بيّنتُ مراراًـ أن‌ يكون‌ قد تجاوز الجزئيّة‌ واتّصل‌ بالكلّيّة‌. أي‌ أن‌ يكون‌ قد عبر عالَم‌ الجزئيّة‌ والكثرات‌ واتّصل‌ قلبه‌ بعالم‌ الكلّيّة‌ والباطن‌، وأن‌ يكون‌ له‌ اتّصال‌ بحقيقة‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ وحقيقة‌ صاحب‌ الزمان‌ علیه السلام‌، وإلاّ فلا يستطيع‌ القيام‌ بعمل‌ كهذا.

الاجتهاد مَلَكَةٌ قُدْسيَّةٌ، وَمِنْحَةٌ إلَهيَّةٌ

 ولا يصحّ القول‌: إنَّ الاجتهاد عمليّة‌ رياضيّة‌، لكي‌ يقال‌ إنَّه‌ إذا جمعنا « أ » مع‌ « ب‌ » وضربناهما باثنين‌ يساوي‌ كذا مثلاً. وإنَّ كلّ مَن‌ تعلّم‌ العمليّة‌ صار مجتهداً!

 وإنَّما الاجتهاد ـ كما قال‌ المرحوم‌ الشهيدـ مَلَكَةٌ قُدْسيَّةٌ، وَمِنْحَةٌ إلَهيَّةٌ. بنحو إذا وجدت‌ هذه‌ الملكة‌ عند شخص‌ تكون‌ جميع‌ أعماله‌ ممضاة‌، وإلاّ كان‌ متورِّطاً في‌ جميع‌ خطواته‌ وأعماله‌.

 وكلامه‌ ناظر إلی هذه‌ الجهة‌، ولا يجب‌ أن‌ يتوهّم‌ الإنسان‌ أنـّه‌ بما أنَّ هؤلاء الاشخاص‌ جيّدون‌ فيجب‌ أن‌ نوصلهم‌ للمرجعيّة‌ ونعتبر المسألة‌ منتهية‌. أو إذا انجرّ حاكم‌ أو مرجع‌ من‌ الصلاح‌ إلی الفساد، يقال‌ إنَّه‌ يجب‌ نصيحته‌ لإعادته‌ بهذه‌ الطريقة‌ من‌ الفساد إلی الصلاح‌. فالامر ليس‌ كذلك‌.

 بل‌ المسألة‌ هي‌: أنَّ نفس‌ الإنسان‌ عندما تنتقل‌ من‌ بيئة‌ إلی بيئة‌ أُخري‌ فإنَّها تتغيّر، ويضيع‌ الإنسان‌ الجيّد، ويري‌ ذلك‌ الشخص‌ الذي‌ عاش‌ في‌ ظروف‌ الرئاسة‌ والامر والنهي‌ نفسه‌ فَعّالٌ لِما يَشاء وَحاكِمٌ لِما يُريد، ويحسب‌ نفسه‌ وَليَّاً وَمُسَيْطِرَاً علی الاموال‌ والنفوس‌، فهو يري‌ لنفسه‌ في‌ الواقع‌ حقّاً كهذا، ويسمح‌ لنفسه‌ أن‌ يقوم‌ بهذه‌ الاعمال‌، ولذا يلجأ إلی هذه‌ التصرّفات‌، لانـّه‌ يجد في‌ نفسه‌ ولاية‌ وسلطة‌ وحقّاً في‌ الامر والنهي‌. وهذه‌ مسألة‌ مهمّة‌ وخطيرة‌ جدّاً.

 ذهبت‌ في‌ أحد الايّام‌ إلی منزل‌ آية‌ الله‌ الحاجّ السيّد محمّد علی سبط‌ الشيخ‌ في‌ طهران‌، ذكر أثناء الحديث‌ الذي‌ دار بيننا قضيّة‌ لطيفة‌ جدّاً، كانت‌ جيّدة‌ بالنسبة‌ لي‌.

 فحدّثني‌ بأنَّ المرحوم‌ آية‌ الله‌ الحاجّ الميرزا علی الشيرازي‌ّ ( ابن‌ المرحوم‌ آية‌ الله‌ الميرزا محمّد حسن‌ الشيرازي‌ّ الذي‌ كان‌ من‌ المراجع‌ في‌ النجف‌ الاشرف‌ ) كان‌ يقول‌ للذين‌ يريدون‌ أن‌ يصبحوا مراجع‌: إذا شكّ الإنسان‌ في‌ عدالتهم‌ فلا يستطيع‌ إجراء استصحاب‌ عدالتهم‌ التي‌ كانت‌ قبل‌ زمان‌ المرجعيّة‌؛ وكان‌ يقول‌: إنَّ هذا المورد من‌ موارد تبدّل‌ الموضوع‌، ومع‌ تبدّل‌ الموضوع‌ لا يجري‌ الاستصحاب‌.

 ولم‌ أعهد مثل‌ هذا الكلام‌، لانَّ الجميع‌ يقولون‌: إذا كان‌ ـمثلاًـ زيدٌ عادلاً ووصل‌ إلی المرجعيّة‌، ثمّ صدرت‌ منه‌ أعمال‌ توجب‌ الشكّ في‌ بقاء العدالة‌، فيجب‌ في‌ هذه‌ الصورة‌ استصحاب‌ عدالته‌.

 بينما يقول‌ الميرزا علی: إنَّ الاستصحاب‌ هنا لا يجري‌، لانَّ الموضوع‌ قد تبدّل‌.

 فقلت‌ له‌: وكيف‌ يصحّ هذا الذي‌ تقولونه‌؟ فقال‌: ومن‌ الصدف‌ أنَّ المرحوم‌ آية‌ الله‌ الحاجّ السيّد محسن‌ الحكيم‌ قد أورد هذا الكلام‌ بالمناسبة‌ في‌ « مستمسك‌ العروة‌ الوثقي‌ ». [2]

 وأمَّا بيان‌ المطلب‌: فقد كان‌ اعتقاده‌ هو وطلاّبه‌ علی أنَّ الإنسان‌ قبل‌ أن‌ يصير مرجعاً فإنَّ نفسه‌ تعيش‌ في‌ إطار مصون‌ من‌ كثيرٍ من‌ الامراض‌ والعاهات‌ والآفات‌ والامراض‌ النفسيّة‌، لكن‌ عندما يصل‌ إلی المرجعيّة‌ ويتجاوز ذاك‌ الإطار السابق‌، وتتأثّر نفسه‌ بمؤثّراته‌، تكون‌ له‌ نفس‌ أُخري‌ غيرالنفس‌ الاُولي‌. فقد تغيّر الموضوع‌ هنا، فاستصحاب‌ العدالة‌ يرتبط‌ بنفسه‌ قبل‌ المرجعيّة‌، والنفس‌ قد تغيّرت‌. وقد كان‌ مصرّاً علی هذا الاعتقاد في‌ عدم‌ جريان‌ الاستصحاب‌.

 ولِنَرَ الآن‌، هل‌ استصحاب‌ عدالة‌ زيد وسريان‌ زمان‌ اليقين‌ إلی زمان‌ الشكّ ـوالذي‌ هو من‌ استصحاب‌ القسم‌ الثالث‌ من‌ الاستصحاب‌ الكلّي‌ّ تقريباًـ صحيح‌ أو لا؟

 لقد قسّموا الاستصحاب‌ الكلّي‌ّ إلی ثلاثة‌ أقسام‌:

 القسم‌ الاوّل‌، هو أن‌ يكون‌ لنا يقين‌ بتحقيق‌ طبيعة‌ كلّيّة‌ في‌ ضمن‌ فرد معيّن‌، ثمّ نشكّ أنَّ هذا الفرد هل‌ زال‌ لكي‌ يكون‌ الكلّي‌ّ قد زال‌ أيضاً أو لا؟ ( لانَّ الطبيعة‌ بما هي‌ طبيعة‌ غير موجودة‌ في‌ الخارج‌، وإذا أرادت‌ أن‌ تتحقّق‌ في‌ الخارج‌ فيجب‌ أن‌ تتحقّق‌ وتتشخّص‌ ضمن‌ خصوصيّة‌ معيّنة‌. فالكلّي‌ّ الطبيعي‌ّ بما هو كلّي‌ّ طبيعي‌ّ لا يستطيع‌ أن‌ يوجد في‌ الخارج‌، وخارجيّته‌ لازمة‌ لتشخّصه‌ وتخصّصه‌ ).

 فنتيقّن‌ مثلاً: أنَّ كلّي‌ّ العدالة‌ قد تحقّق‌ في‌ نفس‌ زيد، ثمّ نشكّ فيما بعد في‌ بقاء العدالة‌ وعدمه‌، وذلك‌ لشكّنا مثلاً في‌ موت‌ زيد وعدمه‌.

 ونظرنا الآن‌ ـ بالطبع‌ـ إلی استصحاب‌ العدالة‌ الكلّيّة‌ لا إلی استصحاب‌ عدالة‌ زيد، إذ لو أردنا استصحاب‌ عدالة‌ زيد فعدالة‌ زيد أمر جزئي‌ّ مثل‌ وجود زيد وحياته‌. ومن‌ الواضح‌ أنَّ استصحاب‌ ذلك‌ أمر لا إشكال‌ فيه‌. لكنَّ الاستصحاب‌ الجزئي‌ّ ليس‌ مورد نظرنا حاليّاً، وإنَّما الكلام‌ هو: أنَّ العدالة‌ الكلّيّة‌ كانت‌ موجودة‌ في‌ الخارج‌ ومتحقّقة‌ مثلاً في‌ ضمن‌ زيد، والآن‌ عندما شككنا في‌ موت‌ زيد، فهل‌ نستطيع‌ أن‌ نستصحب‌ تلك‌ العدالة‌ الكلّيّة‌؟ وذلك‌ لانَّ موضوع‌ العدالة‌ الذي‌ هو في‌ الواقع‌ نفس‌ موضوع‌ الكلّي‌ّ متّحد حدوثاً وبقاءً ( أي‌ أنَّ تحقّق‌ العدالة‌ سابقاً هو في‌ ضمن‌ نفس‌ الفرد المتيقّن‌ الذي‌ يُشكّ الآن‌ في‌ تحقّق‌ العدالة‌ في‌ ضمنه‌ بقاءً ).

 القسم‌ الثاني‌، هو أن‌ نتردّد في‌ تشخّص‌ وتخصّص‌ الطبيعة‌ التي‌ نتيقّن‌ بوجودها في‌ الخارج‌ ضمن‌ هذا الفرد أو ضمن‌ فرد آخر، بحيث‌ إذا كانت‌ ضمن‌ هذا الفرد فهو متيقّن‌ الزوال‌، وإذا كانت‌ ضمن‌ الفرد الآخر فهو متيقّن‌ البقاء. وبما أنـّنا لا نعلم‌ في‌ أي‌ّ فرد قد تحقّق‌ الكلّي‌ّ، فلذا حيث‌ نشكّ الآن‌ في‌ بقائه‌ ( بسبب‌ احتمال‌ تحقّقه‌ في‌ ضمن‌ الفرد الاقصر عمراً ) فلانستطيع‌ إجراء الاستصحاب‌.

 ويقيناً أنَّ الحيوان‌ الكلّي‌ّ قد تحقّق‌ في‌ الخارج‌ سابقاً، لكنّنا لانعلم‌ هل‌ كان‌ تحقّقه‌ ضمن‌ الفيل‌ أو البعوضة‌؟ ففي‌ الصورة‌ الاُولي‌ يكون‌ موجوداً إلی الآن‌ بشكل‌ مسلّم‌، لانَّ عمر الفيل‌ طويل‌، وفي‌ الصورة‌ الثانية‌ قد زال‌ يقيناً. فلو أردنا الآن‌ استصحاب‌ خصوص‌ الفيل‌ فنحن‌ نشكّ في‌ أصل‌ حدوثه‌. ولذا أردنا استصحاب‌ كلّي‌ّ الحيوان‌ الذي‌ قد تحقّق‌ ضمن‌ فرده‌، فهذا أيضاً لا يجري‌، لانَّ شكّنا في‌ أصل‌ وجوده‌ وتحقّقه‌، مع‌ أنَّ الاستصحاب‌ يحتاج‌ إلی ركنين‌: الاوّل‌: اليقين‌ بالحدوث‌، والثاني‌: الشكّ في‌ البقاء. أي‌ يجب‌ أن‌ يكون‌ لدينا يقين‌ بوجود الموضوع‌ سابقاً ونشكّ فيما بعد في‌ بقائه‌. وهنا تلك‌ الحيوانيّة‌ التي‌ كنّا متيقّنين‌ بها سابقاً مشكوكة‌ من‌ الاوّل‌، حيث‌ هل‌ هي‌ حيوانيّة‌ فيليّة‌ أو بعوضيّة‌؟ ولا يمكننا جريانها إلی هذا الزمان‌، لانـّه‌ لا يقين‌ لنا في‌ وجود الحيوان‌ الذي‌ كان‌ في‌ السابق‌. وعليه‌، فلا يكون‌ قابلاً للاستصحاب‌.

 القسم‌ الثالث‌، هو أن‌ يكون‌ لنا يقين‌ بنحو مسلّم‌ بتحقّق‌ الكلّي‌ّ في‌ الخارج‌ في‌ ضمن‌ فرد ما، ونتيقّن‌ الآن‌ أنَّ ذلك‌ الفرد قد زال‌، لكن‌ نشكّ في‌ أنـّه‌ هل‌ تحقّق‌ الكلّي‌ّ أثناء زوال‌ ذلك‌ الفرد في‌ ضمن‌ فرد آخر أو لا؟ لانَّ ذلك‌ الكلّي‌ّ إذا أراد أن‌ يوجد الآن‌ في‌ الخارج‌ فيجب‌ أن‌ يوجد في‌ ضمن‌ فرد آخر.

 كأن‌ نعلم‌ مثلاً: أنَّ زيداً كان‌ في‌ الخارج‌ قطعاً، وكان‌ كلّي‌ّ الإنسانيّة‌ متحقّقاً فيه‌، ثمّ نتيقّن‌ بأنـّه‌ قد مات‌، ولكنّنا لا نعلم‌ في‌ أنـّه‌ هل‌ ولد عمرٌو أثناء موته‌ أو لا؟ وهل‌ استمرّ وجود أصل‌ الكلّي‌ّ الطبيعي‌ّ الذي‌ كان‌ موجوداً بوجود زيد في‌ الخارج‌ بوجود عمرو أو لا؟

 أو نعلم‌، بأنَّ الحيوان‌ الكلّي‌ّ قد كان‌ حيّاً في‌ الخارج‌ ضمن‌ الفيل‌، ومن‌ المسلّم‌ به‌ أنـّه‌ قد مات‌ الآن‌، لكنّنا نشكّ في‌: هل‌ تزامن‌ مع‌ لحظة‌ موته‌ ولادة‌ حيوان‌ كلّي‌ّ آخر في‌ ضمن‌ البعوضة‌ أو لا؟ فلا نستطيع‌ إجراء الاستصحاب‌ هنا أيضاً، لانَّ الموضوع‌ قد تبدّل‌ ( لانَّ الفرد الذي‌ تيقّنا بحدوثه‌ قد زال‌ الآن‌ يقيناً، والفرد الآخر الذي‌ يحتمل‌ وجوده‌ ـ أصل‌ حدوثه‌ـ مشكوك‌ ).

 إذَن‌، من‌ المسلّم‌ به‌ أنَّ الاستصحاب‌ لا يجري‌ في‌ القسمين‌ الثاني‌ والثالث‌، ولا إشكال‌ في‌ جريانه‌ في‌ الاوّل‌، وهو الاستصحاب‌ الجزئي‌ّ.

 وزيد ـفي‌ مورد البحث‌ـ كان‌ يمتلك‌ سابقاً صفة‌ العدالة‌. أي‌ أنَّ العدالة‌ الكلّيّة‌ كانت‌ موجودة‌ سابقاً في‌ شخص‌ زيد، وكانت‌ نفسه‌ في‌ الخارج‌ تمتلك‌ صفة‌ العدالة‌، لكنّنا لا نعلم‌ في‌ أي‌ّ درجة‌ من‌ القوّة‌ كانت‌ تلك‌ العدالة‌، فإذا كانت‌ لا تزال‌ موجودة‌ إلی الآن‌، فهذا يعني‌ أنَّ نفس‌ زيد كانت‌ في‌ السابق‌ نفساً عالية‌ وملكوتيّة‌ تحفظ‌ لنفسها تلك‌ المصونيّة‌ والعدالة‌ والتقوي‌ مع‌ تغيّر الوضع‌ وعروض‌ الاهواء والافكار والميول‌ والامراض‌ الروحيّة‌؛ لانـّه‌ إذا لم‌ تكن‌ نفس‌ زيد بتلك‌ الدرجة‌ من‌ التقوي‌ والورع‌ وكانت‌ مكتفية‌ بتلك‌ العدالة‌ الظاهريّة‌ فمن‌ المسلّم‌ أنَّ هذه‌ الاجواء المسمومة‌ قد أزالت‌ تلك‌ العدالة‌، وأنَّ تلك‌ الشجرة‌ قد انكسرت‌ وقُلعت‌ من‌ جذورها. ونحن‌ لانعلم‌ أنَّ ذلك‌ الشخص‌ يمتلك‌ قبل‌ المرجعيّة‌ والحكومة‌ تلك‌ الدرجة‌ العالية‌ من‌ الصفاء والثبات‌ والإتقان‌ لكي‌ لا يميل‌ مثل‌: الهَمَجِ الرَّعَاعِ إلی هذه‌ الجهة‌ أو تلك‌.

 فلا يمكننا إذَن‌ إجراء الاستصحاب‌، لشكّنا في‌ أصل‌ تحقّق‌ الموضوع‌، فذاك‌ الموضوع‌ الذي‌ كان‌ وجوده‌ محرزاً في‌ زيد في‌ السابق‌ ـأي‌ متيقّناً في‌ السابق‌ـ هو العدالة‌ الاعتياديّة‌ والمتعارفة‌ لزيد الذي‌ لايحلّ استصحابها المشكلة‌، بينما المطلوب‌ واللازم‌ للولاية‌ هو الدرجة‌ العالية‌ من‌ العدالة‌ التي‌ نشكّ في‌ أصل‌ تحقّقها. ومن‌ المسلّم‌ به‌ أنـّنا لانستطيع‌ الآن‌ استصحابها وإجرائها إلی الزمان‌ اللاحق‌، لانَّ شكّنا هو في‌ أصل‌ تحقّق‌ الموضوع‌.

 نعم‌؛ لو كان‌ عندنا يقين‌ في‌ السابق‌ بامتلاك‌ زيد لتلك‌ النفس‌ الملكوتيّة‌ العالية‌، فيمكننا استصحابها فيما لو شككنا في‌ بقاء تلك‌ الصفات‌، ولكن‌ بما أنَّ نفس‌ الإنسان‌ تتغيّر باختلاف‌ البيئة‌ والظروف‌، ( والاغلب‌ ما يلاحظ‌ ذلك‌ أيضاً، وقد اطّرد إلی درجة‌ أنـّه‌ كثيراً ما لايبقي‌ للإنسان‌ محلّ للشكّ، أي‌ أنـّها ظاهرة‌ قويّة‌ إلی هذه‌ الدرجة‌ ) بنحو يتبدّل‌ فيه‌ الموضوع‌، فعندئذٍ لا يمكن‌ أن‌ نستصحب‌ عدالة‌ زيد.

 كان‌ هذا توجيهاً وتفصيلاً وشرحاً للكلام‌ الذي‌ نقلناه‌ عن‌ هؤلاء الاجلّة‌، ولا نريد إبداء رأينا في‌ هذا المقام‌، ولكن‌ نظراً لاهمّيّة‌ المسألة‌ نقول‌ إجمالاً: يتوهّم‌ الكثيرون‌ أنَّ بإمكانهم‌ حيازة‌ مقام‌ الولاية‌ بتحصيل‌ مجموعة‌ من‌ المصطلحات‌ والتحصيلات‌ المتعارفة‌، وبمراعاة‌ بعض‌ الشؤون‌ العرفيّة‌، وبدراسة‌ وتدريس‌ العلوم‌ الرسميّة‌، وبالاكتفاء بهذه‌ العدالة‌ والتقوي‌ الظاهريّتين‌، وكفي‌. مع‌ أنَّ الامر ليس‌ كذلك‌، والمطلب‌ لاينتهي‌ عند هذه‌ النقطة‌.

 الرجوع الي الفهرس

علّة‌ تحرّز الاعلام‌ عن‌ الولاية‌ عدم‌ الاطمئنان‌ إلی امتلاك‌ نفس‌ مطمئنّة‌

 ولذا نجد أنَّ الاجلاّء يمتنعون‌ كثيراً من‌ الوصول‌ إلی المرجعيّة‌ والرئاسة‌ خوفاً من‌ أن‌ تبدّل‌ الظروف‌، إذ يؤخذ الإنسان‌ من‌ جوّ إلی جوّ آخر، وبما أنـّه‌ لا يرون‌ أنفسهم‌ من‌ أصحاب‌ النفس‌ المطمئنّة‌، فهم‌ يجتنبون‌ من‌ ورود الهزاهز.

 وذلك‌ كما لو سافر الإنسان‌ من‌ طهران‌ إلی الحجّ في‌ فصل‌ الشتاء، فمع‌ أنَّ جوّ طهران‌ ملي‌ء بالثلوج‌، لكنّه‌ ما أن‌ يصل‌ إلی أرض‌ الحجاز حتّي‌ يضطرّ لخلع‌ الثياب‌ الشتويّة‌ وارتداء الثياب‌ المناسبة‌ للطقس‌ هناك‌، بسبب‌ اختلاف‌ الجوّ، في‌ الوقت‌ الذي‌ يظنّ فيه‌ سكّان‌ طهران‌ أنَّ الطقس‌ في‌ الحجاز هو مثل‌ طهران‌، وبالعكس‌.

 فالذين‌ يمارسون‌ الاعمال‌ العامّة‌ ويحملون‌ عنوان‌ ولاية‌ عامّة‌ مسؤوليّتهم‌ صعبة‌ ومعقّدة‌ جدّاً، ويجب‌ أن‌ يكونوا ممتلكين‌ لدرجة‌ عالية‌ من‌ التقوي‌ الإلهيّة‌، وأن‌ يكونوا مرتبطين‌ بالله‌ باستمرار، فعليهم‌ في‌ الوقت‌ الذي‌ يوجّهون‌ الاوامر إلی الناس‌ أن‌ يكونوا مؤتمرين‌ بأوامر الله‌ باستمرار، وفي‌ حالة‌ تضرّع‌ وسؤال‌ وخضوع‌ دائم‌ بين‌ يدي‌ الله‌، وأن‌ يكونوا في‌ حالة‌ تواضع‌ مستمرّة‌ تجاه‌ الناس‌، وحتّي‌ تجاه‌ خدمهم‌، فيذهبون‌ إلی مجالس‌ الفقراء، ويجلسون‌ علی الحصير، ولكي‌ يستأصلوا ذلك‌ الغرور والتكبّر ـالذي‌ هو لازم‌ الولاية‌ـ من‌ وجودهم‌ بواسطة‌ عمليّة‌ إذلال‌ هذه‌ النفس‌، وألاَّ يسمحوا لنطفة‌ الغرور النامية‌ في‌ رحم‌ وجودهم‌ واعتبارهم‌ أن‌ تكبر، لانَّ الاُمور النفسانيّة‌ لها منشأ في‌ وجود الإنسان‌، وتلك‌ الولاية‌ وذلك‌ الاعتبار أيضاً بمنزلة‌ الارضيّة‌ المهيّئة‌ لتنمية‌ وتوسعة‌ الاستكبار بالنسبة‌ إليه‌. هذا من‌ جهة‌.

 ومن‌ جهة‌ أُخري‌، فالإنسان‌ لا يصغي‌ لكلام‌ أحد ولا تأتيه‌ مؤاخذة‌ أو توجيه‌ أو أمر من‌ أحد، فالظروف‌ والملابسات‌ والجوّ وسائر اللوازم‌ والخواطر تقتضي‌ ارتفاع‌ الآمريّة‌ المتنامية‌ في‌ الإنسان‌ بشكل‌ متصاعد ومضاعف‌.

 لكنَّ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ لم‌ يكن‌ كذلك‌، قد كان‌ يأمر الآخرين‌ باستمرار، كما أنَّ طاعته‌ لامر الله‌ كانت‌ مستمرّة‌ أيضاً، وبذات‌ الوقت‌ كان‌ كثير البكاء والسجود؛ ويلبس‌ الثياب‌ البالية‌ دون‌ أن‌ يتخطّي‌ عن‌ زيِّه‌ ذلك‌، وإذا أقسم‌ فقسمه‌ حقيقيّاً. ولذلك‌ قال‌ أبو رافع‌: إنَّه‌ شعر بالخوف‌ من‌ كلام‌ الإمام علیه السلام‌، لانَّ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ جادٌّ فيما يقول‌ وفعّال‌ لما ذلك‌. ويوجد في‌ بعض‌ الموارد من‌ خطب‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ قوله‌ مثلاً: والله‌؛ لو فعل‌ الحسن‌ والحسين‌ العمل‌ الفلاني‌ّ لادّبتهما! [3] وكان‌ ينفّذ ذلك‌، لانـّه‌ لا يمزح‌ في‌ قسمه‌. فأميرالمؤمنين‌، أميرالمؤمنين‌ لانـّه‌ هكذا. وعلينا باعتبارنا شيعة‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ أن‌ نكون‌ كذلك‌ أيضاً، وإلاّ كانت‌ جميع‌ تبعات‌ ذلك‌ علی نا. فلو كان‌ ذلك‌ بصفة‌ الوكالة‌ أو الإذن‌ أو الإجازة‌ أو أي‌ّ عنوان‌ آخر، فمجرّد معرفة‌ أمر لا ينتج‌ شيئاً، وإنَّما الحقيقة‌ الخارجيّة‌ هي‌ المنتجة‌. فعلي‌ الإنسان‌ إذَن‌ أن‌ يصرف‌ الاموال‌ الموجودة‌ عنده‌ للمستحقّين‌ عن‌ تحقيق‌.

 وبناء علی هذا، فالوكالات‌ التي‌ تعطي‌ ( بصفة‌ عامّة‌ ) وليس‌من‌ الصحيح‌ أن‌ تدفع‌ الرواتب‌ الشهريّة‌ العامّة‌ دون‌ أن‌ يدري‌ الإنسان‌: هل‌ وصلت‌ إلی مستحقّيها أو لا؟ ويجب‌ التحرّي‌ بدقّة‌ حول‌ أحوال‌ وأخلاق‌ الطلاّب‌، والتمييز بين‌ الجيّد والسيّي‌منهم‌. ويجب‌ أن‌ يصرف‌ سهم‌ الإمام وبيت‌ المال‌ في‌ إعزاز الإسلام‌ والمسلمين‌، وأن‌ يكون‌ دافعاً لرفعة‌ وتقدّم‌ مذهب‌ التشيّع‌ بذات‌ القدر الذي‌ يؤدّيه‌ الاشخاص‌ لرفع‌ شأن‌ الدين‌ ورقيّه‌. ولاينبغي‌ التفريق‌ بين‌ الخواصّ وغيرهم‌، ويجب‌ النظر إلی الجميع‌ بعين‌ واحدة‌، لا أن‌ يعطي‌ الإنسان‌ خواصّه‌ وأقرباءه‌ أكثر من‌ الآخرين‌.

 الرجوع الي الفهرس

دخول‌ مقام‌ الولاية‌من‌غيرنفس‌مطمئنّة‌موجب‌للسقوط‌في‌الضلالة‌

 يجب‌ ملاحظة‌ هذه‌ المسائل‌ بدقّة‌، إذ لو فلت‌ زمام‌ الامر من‌ يد الإنسان‌ قليلاً فسوف‌ يهوي‌ إلی الحضيض‌ بشكل‌ متوالٍ وسريع‌، كالصخرة‌ التي‌ تهوي‌ من‌ قمّة‌ الجبل‌ إلی أسفله‌ في‌ سرعتها، فلو قدّرنا سرعة‌ انحدارها في‌ أوّل‌ متر بسرعة‌ عشركيلومترات‌، فسوف‌ تتضاعف‌ في‌ المتر الثاني‌، حتّي‌ تصل‌ إلی أسفل‌ الجبل‌ وهي‌ مفتّتة‌ بسبب‌ تضاعف‌ تلك‌ السرعة‌.

 وعلي‌ الإنسان‌ أن‌ يسلّم‌ أمره‌ دائماً إلی الله‌ ولا يمدَّ يده‌ إلی هذه‌ الاعمال‌ والاُمور العامّة‌ التي‌ هي‌ أُمور ولايتيّة‌، فلا يجب‌ علیهالدخول‌ فيها ما لم‌ يجد في‌ ذاته‌ نفساً مطمئنّة‌، ولا ينخدع‌ بإصرار الآخرين‌ ومواقفهم‌ فيفرّط‌ بنفسه‌، فإنَّ خطر ذلك‌ كبير. وفيما لو كلّفه‌ الله‌ تعالي‌ أحياناً بمهمّة‌ ما، فعليه‌ أن‌ يكون‌ عبداً ذليلاً خاضعاً للّه‌ كما كان‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌.

 اللَهُمَّ صَلِّ عَلَی مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّد

این مورد را ارزیابی کنید
(0 رای‌ها)

پیام هفته

همکاری با نفوذیان خائن و اختلاس‌گران بی دین
قرآن : لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ کامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (سوره نحل، آیه 52)ترجمه: تا روز قیامت بار گناهان خود را تمام بردارند ، و [ نیز ] بخشی از بار گناهان کسانی را که ندانسته آنان را گمراه می کنند. آگاه باشید ، چه بد باری را می کشند.حدیث: و ایما داع دعی الی ضلالة فاتبع علیه، فان علیه مثل اوزار من اتبعه، من غیر ان ینقص من اوزارهم شیئا!: (مجمع‌البیان، ج6، ص 365)ترجمه: ... و هر کس دعوت به ضلالت کند و از او پیروی کنند همانند کیفر پیروانش را خواهد داشت، بی آنکه از کیفر آنها کاسته شود.

ادامه مطلب

موسسه صراط مبین

نشانی : ایران - قم
صندوق پستی: 1516-37195
تلفن: 5-32906404 25 98+
پست الکترونیکی: این آدرس ایمیل توسط spambots حفاظت می شود. برای دیدن شما نیاز به جاوا اسکریپت دارید