الدرس‌ الحادي‌ والعشرون‌

الدرس‌ الحادي‌ والعشرون‌:

 عهد أمير المؤمنين‌ علیه السلام‌ لمالك‌ الاشتر

 

أعُوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ

بِسْـمِ اللَهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِـيـمِ

 

وصلَّي‌ اللَهُ عَلَی سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ

ولَعْنَةُ اللَهِ عَلَی أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَی قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ

 ولاَ حَولَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَهِ العَلِي‌ِّ العَظِيمِ

 من‌ الادلّة‌ التي‌ يمكن‌ الاستدلال‌ بها علی ولاية‌ الفقيه‌ هي‌ رسالة‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ إلی مالك‌ الاشتر النَّخَعِي‌ّ، المشهورة‌ باسم‌ عهد أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ لمالك‌ الاشتر. وقد أوردها السيّد الرضي‌ّ رحمة‌الله‌ علیهفي‌ « نهج‌ البلاغة‌ » وهي‌ ما كتبه‌ أمير المؤمنين‌ علیه السلام‌ لمالك‌ الاشتر النخعي‌ّ لمّا ولاّه‌ علی مصر، حيث‌ تدلّ بعض‌ فقراتها علی هذا المعني‌؛ يقول‌ علیه السلام‌:

 ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي‌ نَفْسِكَ، مِمَّنْ لاَتَضِيقُ بِهِ الاُمُورُ، وَلاَ تُمْحِكُهُ الخُصُومُ، وَلاَ يَتَمَادَي‌ فِي‌ الزَّلَّةِ، وَلاَ يَحْصَرُ مِنَ الفَي‌ءِ إلَی الحَقِّ إذَا عَرَفَهُ، وَلاَ تُشْرِفُ نَفْسَهُ عَلَی طَمَعٍ، وَلاَ يَكْتَفِي‌ بِأَدْنَي‌ فَهْمٍ دُونَ أَقْصَـاهُ، وَأَوْقَفَهُمْ فِي‌ الشُّـبُهَاتِ، وَآخَـذَهُمْ بِالحُجَجِ، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بَمُرَاجَعَةِ الخَصْـمِ، وَأَصْـبَرَهُمْ عَلَی تَكَشُّـفِ الاُمُورِ، وَأَصْـرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الحُكْمِ مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إطْـرَاءٌ، وَلاَ يَسْـتَمِيلُهُ إغْـرَاءٌ؛ وَأُولَئِكَ قَلِيلٌ [5].

 ويدور بحثنا في‌ هذه‌ الرواية‌ من‌ جهتين‌ أيضاً: الاُولي‌: من‌ ناحية‌ السند، والثانية‌: من‌ ناحية‌ الدلالة‌.

 أمَّا من‌ حيث‌ السند: فيكفي‌ في‌ سند « نهج‌ البلاغة‌ » انتهاؤه‌ إلی السيّد الرضي‌ّ، ومع‌ وجوده‌ فلا حاجة‌ لنا إلی سند آخر. لقد قال‌ البعض‌، إنَّ سند « نهج‌ البلاغة‌ » مقطوع‌، وقد نقل‌ السيّد الرضي‌ّ مطالبه‌ مرسلة‌، ولم‌يوصلها إلی الإمام‌ علیه السلام‌، ولذا فلا حجّيّة‌ لها.

 وهذا الكلام‌ سخيف‌ جدّاً، وساقط‌ تماماً عن‌ درجة‌ الاعتبار. فالسيّد الرضي‌ّ أعلَي‌ مَقاماً وَأرْفَعُ مَنْزِلَةً وَأجَلُّ شَأْناً من‌ أن‌ يَنسِبَ شيئاً بالقطع‌ واليقين‌ إلی أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ دون‌ التثبّت‌ علماً ويقيناً. وعلي‌ هذا، فإتقان‌ سند « نهج‌ البلاغة‌ » ـ إضافة‌ إلی تفرّد المتن‌ والمضمون‌ به‌ الصادر عن‌ مقام‌ الولاية‌ علی التحقيق‌ـ يساوق‌ إتقان‌ السيّد الرضي‌ّ وعلمه‌، فكلّما وصل‌ المطلب‌ إلی « نهج‌ البلاغة‌ » فالبحث‌ عن‌ سنده‌ عندئذٍ كالبحث‌ عن‌ سند القرآن‌ المقطوع‌ به‌.

 الرجوع الي الفهرس

كلام‌ آية‌ الله‌ الحلّي‌ّ علی دلالة‌ عهد أمير المؤمنين‌ لمالك‌الاشتر

 أمّا من‌ حيث‌ الدلالة‌: فلم‌ يأخذ أُستاذنا المرحوم‌ آية‌ الله‌ العظمي‌ الشيخ‌ حسين‌ الحلّي‌ّ رضوان‌ الله‌ علیهـ في‌ بحث‌ الاجتهاد والتقليد الذي‌ قرّرته‌ بنفسي‌ ونسخته‌ الخطّيّة‌ موجودة‌ عندي‌ـ هذا الحديث‌ كدليل‌ من‌ أدلّة‌ الرجوع‌ إلی الاعلم‌ في‌ أدلّة‌ أخذ الفتوي‌.

 وقد كتبتُ في‌ تقريراتي‌ ما يلي‌: قَوْلُهُ عَلَیهِ  السَّلامُ في‌ «نَهْجِ البَلاغَةِ» في‌ عَهْدِ مالِكٍ الاَشْتَرِ: «ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي‌ نَفْسِكَ...».

 ويورد علی دلالة‌ هذا الحديث‌ في‌ لزوم‌ الرجوع‌ إلی الاعلم‌ في‌ باب‌  الإفتاء والاستفتاء إشكالين‌:

 أوّلاً: المراد من‌ الحكم‌ في‌ هذه‌ الفقرة‌ هو الحكم‌ في‌ مقام‌ الترافع‌ والخصومة‌، لا مجرّد  الإفتاء.

 و ثانياً: ليس‌ المراد من‌ الافضليّة‌ هنا الاعلميّة‌، بل‌ المراد الافضليّة‌ في‌ الاخلاق‌ الحميدة‌ والملكات‌ الفاضلة‌ التي‌ يحتاج‌ إليها القاضي‌ في‌ مقام‌ الترافع‌. والشاهد علی هذا المعني‌ نفس‌ تفسيره‌ علیه السلام‌، حيث‌ يقول‌ في‌ هذه‌ الكلمة‌: مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الاُمُورُ وَلاَ تُمْحِكُهُ الخُصُومُ، وَلاَيَتَمَادَي‌ فِي‌ الزَّلَّةِ، وَلاَ يَحْصَرُ مِنَ الفَي‌ءِ إلَی الحَقِّ إذَا عَرَفَهُ؛ إلی آخر كلامه‌. حيث‌ إنَّ هذه‌ الجمل‌ تدلّ علی وجوب‌ تحلّي‌ القاضي‌ بالصبر، وسعة‌ الصدر، والتأمّل‌، وأن‌ تكون‌ له‌ قدرة‌ علی التحمّل‌ لكي‌ لا تتعبه‌ الاُمور الواردة‌ علی ه‌، ولكي‌ يستطيع‌ القيام‌ بمسؤوليّة‌ القضاء بالنحو الافضل‌.

 ثمّ يجيب‌ عن‌ هذا الإشكال‌ بقوله‌: لكن‌ يمكن‌ أن‌ يقال‌: إنَّ مراد الإمام‌ من‌ قوله‌: أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ؛ الافضليّة‌ من‌ جميع‌ الجهات‌، أي‌ أنَّ هذه‌ الكلمة‌ لها إطلاق‌، ومن‌ جملة‌ مصاديق‌ الافضليّة‌، الافضليّة‌ في‌ العلم‌ والفقاهة‌، وكون‌ الإمام‌ علیه السلام‌ قد فسّر الافضليّة‌ بتلك‌ الصفات‌ الخاصّة‌ المذكورة‌ في‌ هذه‌ الرسالة‌، فلا يوجب‌ حصر دائرة‌ الافضليّة‌ في‌ تلك‌ الصفات‌، لانـّه‌ أراد بيان‌ أنَّ الافضليّة‌ تشمل‌ هذه‌ الصفات‌ أيضاً. وأمّا الافضليّة‌ في‌ مقام‌ العلم‌ والفقاهة‌ فهي‌ ملحوظة‌ بشكل‌ مسلّم‌. فعلي‌ القاضي‌ إذَن‌ امتلاك‌ الافضليّة‌ في‌ العلم‌ والفقاهة‌ أيضاً.

 ويحتمل‌ قويّاً أن‌ يكون‌ السبب‌ في‌ عدم‌ ذكر الإمام‌ للافضليّة‌ في‌ العلم‌ والفقه‌، بعد ذكره‌ الافضليّة‌ وبيان‌ بعض‌ مصاديقها، لاعتباره‌ أنَّ هذا الامر من‌ المسلّمات‌ البديهيّة‌. أي‌ أنَّ الذي‌ يكون‌ أعلم‌ وأفقه‌ هو الافضل‌ بالبديهة‌، وهذا لا يحتاج‌ إلی بيان‌، بينما سائر الصفات‌ التي‌ بيّنها الإمام‌ علیه السلام‌ ممّا تحتاج‌ إلی تنبيه‌ وبيان‌. ولقد أورد هذا الاحتمال‌ وارتضاه‌، وختم‌ المطلب‌ هنا. ولو أنصفنا نقول‌: إنَّ هذا المطلب‌ راقٍ وتامّ. وقال‌ كذلك‌: المراد من‌ الافضليّة‌ هنا الافضليّة‌ من‌ جميع‌ الجهات‌، ومنها الاعلميّة‌. فالافراد الذين‌ يختارهم‌ للقضاء يجب‌ أن‌ يكونوا الاعلم‌، بالإضافة‌ لامتلاكهم‌ جميع‌ الصفات‌ الآنفة‌ الذكر أيضاً.

 الرجوع الي الفهرس

دلالة‌ العهد علی لزوم‌ الاعلميّة‌ في‌ باب‌ مرجعيّة‌ الإفتاءوالولاية‌

الدلالتان‌ المقاليّة‌ والمقاميّة‌ لمفاد العهد علی لزوم‌الاعلميّة‌في‌...

 أمّا حول‌ إمكان‌ استفادة‌ لزوم‌ الاعلميّة‌ في‌ مقام‌  الإفتاء والمرجعيّة‌ وبيان‌ الاحكام‌ من‌ هذه‌ الرواية‌ أو عدمه‌، فيقول‌ الشيخ‌ في‌ تتمّة‌ المطلب‌: إنَّ هذه‌ الرواية‌ قد وردت‌ في‌ مورد القضاء، وليس‌ هناك‌ أي‌ّ وجه‌ للتعدي‌ بها إلی مقام‌  الإفتاء. فقد ذكر الإمام‌ علیه السلام‌ هذه‌ الصفات‌ بالنسبة‌ للقاضي‌ فقط‌، ومرحلة‌ القضاء غير مرحلة‌  الإفتاء. ولذا، لم‌ يبحث‌ عن‌ هذا المطلب‌ بعد ذلك‌، فبقي‌ إشكاله‌ في‌ استفادة‌ لزوم‌ الرجوع‌ إلی الاعلم‌ في‌ مرحلة‌  الإفتاء والاستفتاء من‌ هذه‌ الرواية‌ قائماً في‌ محلّه‌.

 ولكن‌ يجب‌ القول‌: إنَّه‌ كما استفدنا الاعلميّة‌ في‌ القضاء من‌ هذه‌ الرواية‌، فنستطيع‌ استفادة‌ الاعلميّة‌ في‌ المرجعيّة‌ أيضاً. أي‌ أنَّ هذه‌ الرواية‌ تفيد وجوب‌ أن‌ يكون‌ الفقيه‌ الذي‌ بيده‌ الولاية‌ أعلم‌ الاُمّة‌ كذلك‌، ووجوب‌ كونه‌ حائزاً لجميع‌ تلك‌ الصفات‌ المذكورة‌.

 وتقريب‌ هذا الاستدلال‌: الاوّل‌: من‌ طريق‌ الدلالة‌ المقاليّة‌؛ والثاني‌: بالدلالة‌ المقاميّة‌.

 أمّا الدلالة‌ المقاليّة‌، فهي‌ من‌ قول‌ الإمام‌ علیه السلام‌: ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي‌ نَفْسِكَ؛ فإذا كان‌ اللازم‌ أن‌ يحكم‌ في‌ رفع‌ المنازعة‌ والخصومة‌ بين‌ شخصين‌ أفضل‌ الرعيّة‌ وأعلم‌ الاُمّة‌، فبطريق‌ أولي‌ يجب‌ أن‌ يكون‌ الشخص‌ الماسك‌ لزمام‌ الولاية‌ والزعامة‌ لجميع‌ الاُمور أعلم‌ مَن‌ في‌ الاُمّة‌ بالاولويّة‌ القطعيّة‌، لانـّه‌ المشرف‌ علی جميع‌ أُمور الناس‌، وإدارة‌ شؤون‌ الناس‌ بيده‌.

 وهذه‌ هي‌ دلالة‌ المنطوق‌ لا المفهوم‌، كالآية‌ المباركة‌ التي‌ تقول‌: فَلاَتَقُل‌ لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا [6]. فما نفهمه‌ من‌ قوله‌ لاَ تَقُل‌ لَّهُمَآ أُفٍّ: أي‌ لاتَضْرِبْهُما؛ بطريق‌ أولي‌. مع‌ أنَّ كلمة‌ لاَ تَضْرِبْهُما ليست‌ موجودة‌ في‌ عبارة‌ لاَ تَقُل‌ لَّهُمآ أُفٍّ، لا بالتضمّن‌ ولا بالمطابقة‌، لكنَّ العرف‌ يفهم‌ من‌ هذه‌ الجملة‌: أنَّ الذي‌ لا ينبغي‌ أن‌ يقال‌ له‌ أُفّ، فبطريق‌ أولي‌ ينبغي‌ أن‌ لايُضرَب‌. وهذا المطلب‌ لا يحتاج‌ إلی بيان‌ آخر، لما في‌ قوله‌ لاَتَقُل‌ لَّهُمَآ أُفٍّ من‌ إفادة‌. وهذه‌ الدلالة‌ هي‌ دلالة‌ المنطوق‌ لا المفهوم‌.

 فتستفاد الفحوي‌ إذَن‌ ( يعني‌ ما يفيده‌ المنطوق‌ ) والاولويّة‌ في‌ الطرف‌ الموافق‌ من‌ نفس‌ الكلام‌؛ بخلاف‌ مفهوم‌ المخالفة‌ الذي‌ يسمّي‌ بدلالة‌ المفهوم‌.

 والاولويّة‌ القطعيّة‌ ـ التي‌ نحن‌ الآن‌ بصدد إثباتها في‌ هذه‌ الرواية‌ـ ليست‌من‌ مفهوم‌ الكلام‌ بحسب‌ الاُصول‌، وإنَّما هي‌ من‌ المنطوق‌؛ فلو قلنا مثلاً: إنْ طَلَعَتِ الشَّمسُ فَالنَّهارُ مَوْجود؛ يستفاد من‌ مفهوم‌ المقارنة‌ أنـّه‌: إنْ لَمْ تَطْلُعِ الشَّمسُ فَالنَّهارُ لَيْسَ بِمَوْجود. أو إذا قلنا: إنْ جاءَ َزيْدٌ فَأَكْرِمْهُ؛ يُستفاد منه‌: إنْ لَمْ يَجِي‌ْ زَيْدٌ فَلا يَجِبُ عَلَی كَ إكْرامُه‌. وهذه‌ الدلالة‌ هي‌ دلالة‌ المفهوم‌، حتّي‌ لو كان‌ ذلك‌ المفهوم‌ يُستفاد من‌ حاقّ هذا اللفظ‌، إذ لايقال‌ عرفاً: فُلانٌ نَطَقَ أو يَنْطِقُ بِالكَلام‌؛ وإنَّما يقال‌: يُسْتَفادُ مِنْ كَلامِهِ هَذا.

 ويسمّي‌ هذا المفهوم‌. فمفهوم‌ المخالفة‌ مفهومٌ، بينما المنطوق‌ يشمل‌ الموافقة‌ أيضاً، فمفهوم‌ الموافقة‌ من‌ منطوق‌ الكلام‌. ولذا يقولون‌: فالآية‌ تقول‌: لا تضربهم‌، لا المستفاد من‌ الآية‌ معني‌ كهذا.

 وهذه‌ الدلالة‌ التي‌ استفدناها من‌ عبارة‌ «ثُمَّ اخْتَرْ لِلحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ» إنَّما استفدناها بالدلالة‌ المنطوقيّة‌، أي‌ أنَّ هذا الكلام‌ يدل‌ بالاولويّة‌ القطعيّة‌ المُستفادة‌ من‌ ظاهر اللفظ‌، علی: أنَّ نفس‌ الوالي‌ يجب‌ أن‌ يكون‌ أعلم‌ من‌ كلّ الجهات‌ من‌ ( حيث‌ المسؤوليّة‌ والسيطرة‌ والولاية‌ التي‌ ينبغي‌ أن‌ تكون‌ للقاضي‌، حيث‌ يجب‌ أن‌ يكون‌ مسيطراً علی جميع‌ أعماله‌ وتصرّفاته‌ ).

 والشاهد علی هذا المطلب‌: أنَّ الإمام‌ علیه السلام‌ يأمر مالكاً هنا بـ: لزوم‌ مراجعة‌ عمل‌ القضاة‌ أيضاً ليري‌ كيفيّة‌ عملهم‌ في‌ قضائهم‌، وبعدم‌ تركهم‌، ولزوم‌ التصدّي‌ لمتابعة‌ أعمالهم‌. فقد ذكر الإمام‌ علیه السلام‌ هنا أصنافاً: الجنود، وكتّاب‌ الخاصّة‌، وكتّاب‌ العامّة‌، وأهل‌ الإنصاف‌ ورفق‌ الديوان‌، وأصحاب‌ الصناعات‌ والتجارات‌، وأهل‌ الخراج‌، والضعفاء. فقد عدَّ الإمام‌ علیه السلام‌ جميع‌ هذه‌ الاصناف‌ وعيّن‌ وظائفهم‌، ومن‌ ثمّ خاطب‌ مالك‌ الاشتر فأمره‌ بلزوم‌ مراجعة‌ أعمالهم‌.

 فإذا كان‌ ذلك‌ القاضي‌ الذي‌ علی مالك‌ أن‌ يعارض‌ أعماله‌ أفضل‌ الرعيّة‌ فيجب‌ أن‌ يكون‌ مالك‌ الذي‌ له‌ سيطرة‌ علی ذلك‌ القاضي‌ أفضل‌ الرعيّة‌ وأعلم‌ الاُمّة‌ بطريق‌ أولي‌. لانَّ مالكاً ولي‌ّ، وقد نصب‌ كذلك‌ من‌ قِبَل‌ الإمام‌، فهو يمتلك‌ مقام‌ الولاية‌، والقضاة‌ الذين‌ تحت‌ يده‌ إنَّما يتصدّون‌ لرفع‌ الخصومات‌ فقط‌. وهذه‌ هي‌ الدلالة‌ المقاليّة‌.

 وأمّا الدلالة‌ المقاميّة‌، فهي‌: أنَّ الإمام‌ علیه السلام‌ قد كتب‌ هذه‌ الرسالة‌ لمالك‌ الاشتر، وقد نصب‌ مالك‌ نفسه‌ للولاية‌. وعلي‌ هذا، فعندما يقول‌ الإمام‌ علیه السلام‌ لمالك‌ المنصوب‌ من‌ طرفه‌ بهذه‌ الصفة‌ اختر للحكم‌ بين‌ الناس‌ أفضل‌ رعيّتك‌ (فِي‌ نَفْسِكَ) ويكون‌ هذا الاختيار وهذه‌ الولاية‌ بيد مالك‌، فهو إنَّما يقوم‌ بهذا الاختيار بولايته‌ أيضاً، وينتخب‌ أعلم‌ الاُمّة‌ لاجل‌ القضاء. فهذا المقام‌ واختيار الإمام‌ علیه السلام‌ لمالك‌ لكي‌ يقوم‌ بانتخاب‌ الاعلم‌ يدلّ علی أنَّ نفس‌ مالك‌ في‌ الوهلة‌ الاُولي‌ واجد لهذه‌ الدرجة‌، فلا يستطيع‌ الإمام‌ أن‌ يعيّن‌ مالكاً ـ الذي‌ ليس‌ هو بأعلم‌ وأفضل‌ـ علی الناس‌، ومن‌ ثمّ يطلب‌ منه‌ أن‌ يكون‌ مسؤولاً ومسلّطاً علی جميع‌ القضاة‌ الذين‌ هم‌ أعلم‌ من‌ جميع‌ الاُمّة‌!

 وعلي‌ هذا الاساس‌، فنصب‌ الإمام‌ علیه السلام‌ مالكاً في‌ هذا المقام‌ هو بنفسه‌ شاهد وقرينة‌ قطعيّة‌ علی أنَّ مالك‌ يجب‌ أن‌ يكون‌ ممتلكاً لصفة‌ « الافضليّة‌ » هذه‌، وأنـّه‌ قد كان‌ كذلك‌، وإلاّ لما نصبه‌ الإمام‌ للولاية‌ أصلاً. ومالك‌ الذي‌ كان‌ علیهمن‌ ناحيته‌ تدبير أُمور الجنود وأصحاب‌ الصناعات‌ وأرباب‌ الخراج‌ ومسؤولي‌ الديوان‌ والمتصدّين‌ لاُمور الناس‌ وكتّاب‌ الخاصّة‌ وكتّاب‌ العامّة‌ وغيرهم‌، وأن‌ يكون‌ له‌ ولاية‌ وسيطرة‌ علی هم‌ جميعاً، يجب‌ أن‌ يكون‌ ـوهو بهذه‌ المسؤوليّة‌ وقبل‌ كلّ شي‌ءـ أعلم‌ لكي‌ يستطيع‌ أن‌ يعرف‌ الاعلم‌ وينصبه‌ في‌ مراكز القضاء ورفع‌ المنازعات‌ والخصومات‌ بين‌ الناس‌ هذه‌.

 فلو أُريد ـ مثلاًـ تنصيب‌ أُستاذ طبّ لرئاسة‌ الجامعة‌ بأمر شخص‌ ما لكي‌ يقوم‌ بتربية‌ الطلاّب‌ في‌ مختلف‌ المجالات‌، فينبغي‌ أن‌ يكون‌ المنصوب‌ أعلم‌ الجميع‌، وليس‌ من‌ الصحيح‌ أن‌ يقال‌، لا ضرر في‌ تعيين‌ أُستاذ جامعي‌ّ لتحمّل‌ مسؤوليّة‌ الطلبة‌ وهو فاقد للاهليّة‌ اللازمة‌ لهذا الامر.

 فمن‌ الممكن‌ إذَن‌ استفادة‌ لزوم‌ الاعلميّة‌ من‌ الرواية‌ في‌ ولاية‌ وفقاهة‌ مالك‌ بالقرينة‌ المقاميّة‌ ( أي‌ نصب‌ مالك‌ لولاية‌ مصر من‌ قِبل‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌، بل‌ وتدلّ الرواية‌ بشكل‌ قطعي‌ علی ولاية‌ الفقيه‌، وعلي‌ أعلميّته‌ أيضاً.

 ومن‌ الآيات‌ التي‌ يمكن‌ الاستدلال‌ بها علی لزوم‌ ووجوب‌ الفتوي‌ هي‌ آية‌ «النَّفْر» المباركة‌. ولم‌ يستدلّ أحد بهذه‌ الرواية‌ علی ولاية‌ الفقيه‌. ونحن‌، لاجل‌ إثبات‌ هذا الامر، أي‌ عدم‌ دلالة‌ الآية‌، نذكر حولها بعض‌ التوضيحات‌ المختصرة‌.

 لقد أعلن‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیهوآله‌ وسلّم‌ التعبئة‌ العامّة‌ في‌ المدينة‌ في‌ غزوة‌ تبوك‌ التي‌ وقعت‌ في‌ السنة‌ التاسعة‌ للهجرة‌، وكان‌ علی الجميع‌ التحرّك‌ للمشاركة‌ في‌ الحرب‌. وقد وقعت‌ غزوة‌ تبوك‌ في‌ الصيف‌، فكان‌ الهواء حارّاً، والمشاكل‌ كثيرة‌، كما صادف‌ وقت‌ نضوج‌ ثمار الاشجار وحصاد الزرع‌ ممّا يعرّض‌ كلّ ذلك‌ للتلف‌ فيما لو تركوها وخرجوا للحرب‌. ومن‌ جهة‌ أُخري‌، فقد تمّ تبليغ‌ حكم‌ الله‌ بواسطة‌ رسول‌الله‌ صلّي‌الله‌ علیهوآله‌ وسلّم‌ في‌ ضرورة‌ صرف‌ النظر عن‌ جميع‌ هذه‌ الاُمور والسير نحو العدوّ.

 فشارك‌ جميع‌ المسلمين‌ في‌ هذا القتال‌ عدا قليل‌ من‌ المنافقين‌ الذين‌ تعلّل‌ كلّ منهم‌ بعذر ما ( وقد بيّن‌ الله‌ تعالي‌ أحوالهم‌ بالتفصيل‌ في‌ سورة‌ التوبة‌ ). ولم‌ يتخلّف‌ عن‌ هذا القتال‌ من‌ غير المنافقين‌ إلاّ ثلاثة‌ أشخاص‌، وهم‌: كَعْب‌ بن‌ مالِك‌، مُرَارَة‌ بن‌ ربيع‌ وهِلال‌ بن‌ أُمَيَّة‌. فنزلت‌ فيهم‌ هذه‌ الآية‌[7]:

 وَعَلَی الثَّلَـ'ثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّي‌'´ إِذَا ضَاقَتْ عَلَیهِ مُ الاْرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَیهِ مْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّو´ا أَن‌ لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَهِ إِلآ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَیهِ مْ لِيَتُوبُو´ا إِنَّ اللَهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[8].

 وقصّتهم‌ طويلة‌، وخلاصتها: قام‌ أهل‌ المدينة‌ بعد ذلك‌ باجتنابهم‌ والامتناع‌ عن‌ مكالمتهم‌، بينما لجأوا من‌ جهتهم‌ إلی الإنزواء والعزلة‌، حتّي‌ أشرفوا علی الموت‌، وأوشكوا علی الهلاك‌ حزناً، إلی أن‌ تابوا، وقبل‌ الله‌ توبتهم‌ واحداً بعد الآخر. وحيث‌ إنَّنا لسنا بصدد بحث‌ هذه‌ الآية‌ من‌ جميع‌ الجهات‌ فنكتفي‌ بهذه‌ الإشارة‌.

 والشاهد هو: كان‌ جميع‌ أهل‌ المدينة‌ في‌ غزوة‌ تبوك‌ مأمورين‌ بالمشاركة‌ في‌ الحرب‌، ومن‌ جملتهم‌ معلّمي‌ القرآن‌ والاحكام‌، وكان‌ النبي‌ّ قد أمرهم‌ بتعليم‌ القرآن‌ والاحكام‌ للذين‌ كانوا في‌ المدينة‌، أو الذين‌ كانوا يأتون‌ من‌ سائر القري‌ والقصبات‌ إلی المدينة‌ ممّن‌ أسلموا، لكي‌ يعودوا إلی ديارهم‌ حاملين‌ المعارف‌ الإسلاميّة‌ التي‌ تعلّموها.

 فكان‌ هؤلاء الاشخاص‌ مأمورين‌ بتعليم‌ المسلمين‌ جميع‌ القرآن‌ ـ عدا الآيات‌ التي‌ نزلت‌ في‌ غزوة‌ تبوك‌ـ فما أن‌ استعدّ هؤلاء الاشخاص‌ للسير كباقي‌ المسلمين‌ حتّي‌ نزلت‌ الآية‌ وأمرتهم‌ بالبقاء في‌ المدينة‌ وتعليم‌ الاحكام‌ وسنّة‌ النبي‌ّ، وهي‌ قوله‌ تعالي‌:

 وَمَا كَانَ الْمُوْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن‌ كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآءِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي‌ الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُو´ا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [9].

 الرجوع الي الفهرس

دلالة‌ آية‌ «النفر» والسنّة‌ علی إعفاء الطلاّب‌ من‌ خوض‌الحرب‌

 فيستفاد من‌ آية‌: مَا كَانَ الْمُوْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَةً، أنّـه‌: أوّلاً: إعفاء طلاّب‌ العلوم‌ الدينيّة‌ المشتغلين‌ بالتحصيل‌ من‌ الخدمة‌ العسكريّة‌ والحضور في‌ جبهات‌ القتال‌، وحتّي‌ في‌ حالات‌ التعبئة‌ العامّة‌ التي‌ تشمل‌ الجميع‌؛ إذ لاينبغي‌ أن‌ يقتل‌ الطلاّب‌. نعم‌؛ لا إشكال‌ في‌ أخذهم‌ للجبهة‌ لغرض‌ الوعظ‌ والإرشاد وترويج‌ الدين‌ وبيان‌ المسائل‌ والاحكام‌ الشرعيّة‌، ولكن‌ يجب‌ أن‌ يكونوا في‌ أمان‌ من‌ خطّ النار. فيجب‌ أن‌ يدرسوا بشكل‌ جيّد ويحصّلوا المسائل‌ والقرآن‌ والاحكام‌ بشكل‌ أفضل‌. وذلك‌ لانَّ زوال‌ هؤلاء يؤدّي‌ إلی زوال‌ الإسلام‌ من‌ الوجود. فالإسلام‌ قائم‌ علی هذا القرآن‌، وإذا قُتل‌ حرّاس‌ القرآن‌ والسنّة‌ وحفظتهما، فإنَّ أصل‌ القرآن‌ والسنّة‌ يزولان‌ من‌ الوجود بشكل‌ كامل‌.

 ولذا استثني‌ معلّمو القرآن‌ والاحكام‌ من‌ تلك‌ المعركة‌ المهمّة‌، وأمرهم‌ النبي‌ّ بلزوم‌ البقاء في‌ المدينة‌ وتعليم‌ الناس‌ القرآن‌، مع‌ أنـّه‌ عندما رفض‌ المشاركة‌ ثلاثة‌ من‌ الناس‌ نزلت‌ تلك‌ الآيات‌ الشديدة‌، وقاطعهم‌ النبي‌ّ والمسلمون‌ إلی أن‌ تابوا.

 ويمكن‌ أن‌ نستفيد ـوبشكل‌ جيّدـ مسألة‌ ذهاب‌ الطلاّب‌ إلی الحرب‌ وقتلهم‌ وبقاء مكانهم‌ شاغراً من‌ الآية‌: مَا كَانَ الْمُؤمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّةً.

 الرجوع الي الفهرس

دلالة‌ آية‌ «النفر» علی ‌وجوب‌تحصيل‌العلوم‌الإسلاميّة‌وتعليمها

 ثانياً: يستفاد من‌ هذه‌ الآية‌ الوجوب‌ الكفائي‌ّ لقيام‌ عدد من‌ الاشخاص‌ بتحصيل‌ العلم‌ وتدريس‌ القرآن‌ وسنّة‌ النبي‌ّ وأحكام‌ الدين‌ والتفسير والفقه‌ والاخبار الواردة‌ عن‌ الائمّة‌ علیهم السلام‌. ووجوب‌ تعليم‌ الاخلاق‌ والسير والسلوك‌ إلی الله‌ وعلم‌ الكلام‌ والحكمة‌ والعرفان‌ الإلهي‌ّ، لانـّه‌ لم‌ يقل‌: إنَّ علی الجميع‌ الرحيل‌ إلی المدينة‌، وإنَّما قال‌: فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن‌ كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآءِفَةٌ. أي‌ ليأتي‌ من‌ كلّ فرقة‌ جماعة‌ لكي‌ يعودوا فيما بعد ويتكفّلوا بجميع‌ الاُمور. فتحصيل‌ العلم‌ إذَن‌ واجب‌ بالوجوب‌ الكفائي‌ّ بالمقدار الذي‌ ترتفع‌ به‌ حاجة‌ تلك‌ الجماعة‌ من‌ ناحية‌ التعليم‌ والتعلّم‌ الدينيّين‌ بنحو يبقي‌ الناس‌ محتاجين‌ بعد ذلك‌.

 وشاهدنا هنا هو: أنَّ هذه‌ الآية‌ تدلّ علی لزوم‌ الاجتهاد والتقليد، وذلك‌ لانـّها تقول‌: لِمَ لا تأتي‌ مجموعة‌ من‌ الناس‌ إلی المدينة‌؟ أي‌: من‌ الواجب‌ أن‌ تأتي‌ طائفة‌ من‌ الناس‌ إلی المدينة‌، إلی المركز العلمي‌ّ للإسلام‌ لتعلّم‌ القرآن‌ والسنّة‌ ومن‌ ثمّ يعودوا إلی بلادهم‌، وعلي‌ الناس‌ أن‌ يرجعوا إليهم‌، وعليهم‌ أيضاً أن‌ يعرّفوا الناس‌ علی تلك‌ المسألة‌ التي‌ تعلّموها. فالمستفاد من‌ الآية‌: وجوب‌ رجوع‌ الجاهل‌ إلی العالم‌ والمرجعيّة‌ في‌ الفتوي‌.

 كما يستفاد من‌ هذه‌ الآية‌ الشريفة‌ مسألة‌ القضاء والفصل‌ في‌ الخصومات‌، أي‌ أنَّ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن‌ كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآءِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي‌ الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُو´ا إِلَيْهِمْ، تشمل‌ مورد الفصل‌ في‌ الخصومة‌ ورفع‌ النزاع‌ بين‌ المتخاصمين‌ أيضاً. فعليهم‌ إذَن‌ بيان‌ الاحكام‌، وعلي‌ المتنازعين‌ أن‌ يكتفوا بحكمهم‌، ويخافوا الله‌ ويقنعوا بحقّهم‌.

 ولا يستفاد من‌ هذه‌ الآية‌ حتميّة‌ لزوم‌ كون‌ المتولّي‌ لاُمور الناس‌ فقيهاً. ولهذا، لم‌ نأتِ بهذه‌ الآية‌ في‌ كتاب‌ « رسالة‌ بديعة‌ » في‌ تفسير الآية‌ الشريفة‌: الرِّجَالُ قَوَّ ' مُونَ عَلَی النِّسَآءِ باعتبارها من‌ أدلّة‌ ولاية‌ الفقيه‌، الذي‌ تضمّنته‌ الرسالة‌.

 ومن‌ جملة‌ الادلّة‌ التي‌ ذكروها علی ولاية‌ الفقيه‌ ثلاث‌ طوائف‌ من‌ الروايات‌:

 الطائفة‌ الاُولي‌: الروايات‌ التي‌ تقول‌: العلماء ورثة‌ الانبياء.

 الطائفة‌ الثانية‌: الروايات‌ التي‌ تدلّ علی أنَّ العلماء أُمناء الله‌.

 الطائفة‌ الثالثة‌: الروايات‌ التي‌ تقول‌: العلماء والفقهاء حصون‌ وقلاع‌ الإسلام‌.

 فلنر هل‌ يمكن‌ الاستدلال‌ بهذه‌ الروايات‌ علی ولاية‌ الفقيه‌، أو لا؟

 الرجوع الي الفهرس

روايتا: العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الاَنْبِيَاءِ؛ الفُقَهَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ مَا لَمْ يَدْخُلُوا...

 أمّا الروايات‌ التي‌ تدلّ علی أنَّ العلماء ورثة‌ الانبياء، فمنها: صحيحة‌ أبي‌ البَخْتَري‌ّ التي‌ يرويها عن‌ محمّد بن‌ يعقوب‌ الكليني‌ّ في‌ « الكافي‌ »، عن‌ محمّدبن‌ يحيي‌، عن‌ أحمد بن‌ محمّد بن‌ عيسي‌، عن‌ محمّد بن‌ خالد، عن‌ أبي‌ البختري‌ّ، عن‌ الإمام‌ الصادق‌ علیه السلام‌، أنـّه‌ علیه السلام‌ قال‌: إنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الاَنْبِيَاءِ؛ وَذَاكَ أَنَّ الاَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِرْهَماً وَلاَ دِينَاراً وَإنَّمَا أَوْرَثُوا أَحَادِيثَ مِنْ أَحَادِيثِهِمْ فَمَنْ أَخَذَ بِشَي‌ءٍ مِنْهَا فَقَدْ أَخَذَ حَظَّاً وَافِراً؛ فَانْظُرُوا عِلْمَكُمْ هَذَا عَمَّنْ تَأْخُذُونَهُ؟ فَإنَّ فِينَا أَهْلَ البَيْتِ فِي‌ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولاً يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الغَالِينَ، وَانْتِحَالَ المُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الجَاهِلِينَ [10].

 أي‌ أنـّهم‌ يصرفونهم‌ عن‌ ذلك‌ الطريق‌ المنحرف‌، ويُبعدون‌ تحريف‌ الغالين‌ وانتحال‌ المبطلين‌ وتأويل‌ الجاهلين‌.

 وثمّة‌ رواية‌ أُخري‌ يرويها الكليني‌ّ عن‌ محمّد بن‌ الحسن‌ و علی ‌ّبن‌ محمّد، عن‌ سَهْل‌ بن‌ زياد؛ ومحمّد بن‌ يحيي‌، عن‌ أحمد بن‌ محمّد، وكلاهما عن‌ جعفر بن‌ محمّد الاشعري‌ّ، عن‌ عبد الله‌ بن‌ ميمون‌ القدّاح‌، وعلي‌ّبن‌ إبراهيم‌، عن‌ أبيه‌، عن‌ حَمّاد بن‌ عيسي‌، عن‌ القَدّاح‌، عن‌ الإمام‌ الصادق‌ علیه السلام‌، أنـّه‌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَهِ صَلَّي‌ اللَهُ عَلَیهِ  وآلِهِ وَسَلَّم‌:...وَإنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الاَنْبِيَاءِ؛ إنَّ الاَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً وَلَكِنْ وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ [11].

 وسند هذه‌ الرواية‌ صحيح‌. ومفادها نفس‌ مفاد الرواية‌ الاُولي‌.

 فالروايات‌ الآنفة‌ الذكر تدلّ علی أنَّ العلماء ورثة‌ الانبياء.

 وأمّا الطائفة‌ الاُخري‌ من‌ الروايات‌ التي‌ تدلّ علی أنَّ الفقهاء أُمناء الرسل‌ وأُمناء الله‌، فمن‌ قبيل‌: الرواية‌ التي‌ رواها الكليني‌ّ في‌ « الكافي‌ » عن‌ علی ‌ّبن‌ إبراهيم‌، عن‌ أبيه‌، عن‌ النَّوفَلي‌ّ، عن‌ السَّكوني‌ّ، عن‌ الإمام‌ الصادق‌ علیه السلام‌:

 قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَهِ صَلَّي‌ اللَهُ عَلَیهِ  وَآلِهِ وَسَلَّمَ: الفُقَهَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ مَا لَمْ يَدْخُلُوا فِي‌ الدُّنْيَا.

 قِيلَ يَا رَسُولَ اللَهِ: وَمَا دُخُولُهُمْ فِي‌ الدُّنْيَا؟ قَالَ: اتِّبَاعُ السُّلطَانِ. فَإذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَاحْذَرُوهُمْ عَلَی دِينِكُمْ [12].

 والمراد باتّباع‌ السلطان‌ هو اتّباع‌ حاكم‌ الجور والدخول‌ في‌ أجهزته‌ واتّباعهم‌ وإمضاء أعمالهم‌ وتصرّفاتهم‌، وهو ما لا يجوز مطلقاً تحت‌ أي‌ّ عنوان‌ أو شغل‌ كان‌. ففي‌ كلّ زمان‌ قام‌ العلماء بذلك‌، أي‌ اتّبعوا السلطان‌، فاحذروهم‌ علی دينكم‌ واجتنبوا عنهم‌، لانـّهم‌ يحرقون‌ دينكم‌ بالنار، ويفسدونه‌ ويقضون‌ علیه. لانـّهم‌ قد فسدوا باتّباع‌ السلطان‌، ولانـّهم‌ لايتّبعون‌ السلطان‌ ولا يرتضون‌ ذلك‌ إلاّ بعد أن‌ تفسد قلوبهم‌ وتسودّ، وبعد أن‌ يميلون‌ إلی جانب‌ السلطان‌ بنحو ذلك‌ السواد والفساد في‌ قلوبهم‌ باستمرار ويكثر إلی أن‌ ينحرفوا عن‌ الحقّ بشكل‌ كامل‌. وعليه‌، فلاتتّبعوا هؤلاء، لانـّهم‌ سوف‌ يفسدونكم‌.

 ومثل‌ الرواية‌ الاُخري‌ التي‌ يرويها الكليني‌ّ أيضاً عن‌ محمّدبن‌ يحيي‌ عن‌ أحمدبن‌ محمّد بن‌ عيسي‌ عن‌ محمّد بن‌ سنان‌ عن‌ إسماعيل‌ بن‌ جابر عن‌ الإمام‌ الصادق‌ علیه السلام‌ أنـّه‌ قال‌: العُلَمَاءُ أُمَنَاءُ، وَالاَتْقِيَاءُ حُصُونٌ، وَالاَوصِيَاءُ سَادَةٌ [13].

 « العلماء أُمناء الله‌ ». أي‌ أنَّ من‌ يرجع‌ إليهم‌ فإنَّما يرجع‌ إلی شخص‌ أمين‌، ويدخل‌ في‌ الامان‌. ويُحفظ‌ من‌ شرّ الحوادث‌ والوساوس‌ والخطرات‌ الشيطانيّة‌، أي‌ كما يُسلِّم‌ الشخص‌ الذي‌ يكون‌ عازماً علی السفر بيته‌ لشخص‌ أمين‌، ليقوم‌ ذلك‌ الامين‌ بالمحافظة‌ علی زوجته‌ وأولاده‌ وأمواله‌ وشرفه‌ واعتباره‌ إلی أن‌ يعود من‌ السفر، فالعلماء أيضاً أُمناء الله‌. «وَالاَتْقِيَاءُ حُصُونٌ» أي‌ أنَّ الاشخاص‌ الاتقياء والمطهّرين‌ هم‌ قلاع‌ الإسلام‌ التي‌ تحفظه‌ من‌ الحوادث‌ والشرور التي‌ تصل‌ إليه‌ من‌ الخارج‌ التي‌ تطيل‌ الاُمّة‌ الإسلاميّة‌. «وَالاَوصِيَاءُ سَادَةٌ» أي‌ سادة‌ الاُمّة‌ وقادتها ورؤساؤها.

 أمّا تلك‌ الروايات‌ التي‌ تدلّ علی أنَّ المؤمنين‌ والفقهاء حصون‌ الإسلام‌ فمن‌ قبيل‌ الرواية‌ التي‌ ينقلها الكليني‌ّ عن‌ محمّد بن‌ يحيي‌، عن‌ أحمدبن‌ محمّد عن‌ ابن‌ محبوب‌، عن‌ علی ‌ّ بن‌ أبي‌ حمزة‌ أنـّه‌ قال‌: سمعت‌ الإمام‌ موسي‌ بن‌ جعفر علیه السلام‌ يقول‌: إذَا مَاتَ المُوْمِنُ بَكَتْ عَلَیهِ  المَلائِكَةُ وَبِقَاعُ الاَرْضِ الَّتي‌ كَانَ يَعْبُدُ اللَهَ عَلَی هَا وَأَبْوَابُ السَّمَاءِ الَّتِي‌ كَانَ يُصْعَدُ فِيهَا بِأَعْمَالِهِ وَثُلِمَ فِي‌ الإسلامِ ثُلْمَةٌ لاَ يَسُدُّهَا شَي‌ءٌ؛ لاَنَّ المُؤْمِنِينَ الفُقَهَاءَ حُصُونُ الإسلامِ كَحِصْنِ سُورِ المَدِينَةِلَهَا[14].

 فالمؤمنون‌ الذين‌ يكونون‌ فقهاء هم‌ حصون‌ وقلاع‌ الإسلام‌، وإذا كُسرت‌ القلعة‌ يفقد أهلها كلّ أمان‌. فيتوقّف‌ حفظ‌ وصيانة‌ النساء والاطفال‌ والاموال‌ وكلّ من‌ يعيش‌ في‌ القلعة‌ علی تلك‌ الجدران‌ التي‌ تحيط‌ بها. فتلك‌ الجدران‌ إذَن‌ هي‌ الحافظة‌ لاهل‌ القلعة‌، وإذا هُدِّمَتْ الجدران‌ فسوف‌ يتعرّض‌ الجميع‌ للاعتداء من‌ الخارج‌ باستمرار، وسيتعرّضون‌ لهتك‌ العرض‌ والإغارة‌ علی المال‌ وسلب‌ العزّة‌ والشرف‌.

 «لاَنَّ المُوْمِنِينَ الفُقَهَاءَ حُصُونُ كَحِصْنِ سُورِ المَدِينَةِ لَهَا»

 واستدلّ البعض‌ للولاية‌ والقضاء بهذه‌ الفقرة‌ «الفُقَهَاءُ حُصُونُ الإسلامِ» وبتلك‌ الجملتين‌ السابقتين‌ «الفُقَهَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ» و «العُلَمَاءُ وَرَثَةُ الاَنْبِيَاءِ». فوراثة‌ الانبياء تشمل‌ جميع‌ مناصب‌ المورّث‌. والوراثة‌ تعني‌ أنَّ الوارث‌ يرث‌ من‌ جميع‌ مناصب‌ المورّث‌. ومن‌ جملة‌ مناصب‌ الانبياء: الولاية‌ والقضاء. كما أنـّهم‌ أُمناء وحصون‌ الإسلام‌ أو أنـّهم‌ أُمناء رسل‌الله‌ كذلك‌.

 الرجوع الي الفهرس

النتيجة‌ الحاصلة‌ والمستفادة‌ من‌ هذه‌ الروايات‌

 وَلَكِنَّ الإنْصافَ عَدَمُ دَلالَةِ رِواياتِ الوِراثَةِ عَلَی ذَلِك‌؛ لانَّ روايات‌ الوراثة‌ هي‌ في‌ مقام‌ بيان‌ فضيلة‌ العالم‌. والشاهد علی هذا المطلب‌ ذيل‌ ذينك‌ الحديثين‌ اللذين‌ نقلناهما. فذلك‌ الذيل‌ صريح‌ في‌ أنَّ المراد من‌ الإرث‌ هو إرث‌ العلوم‌ والاحاديث‌، لانـَّه‌ علیه السلام‌ قال‌ في‌ ذيل‌ الرواية‌ الاُولي‌: وَذَاكَ أَنَّ الاَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِرْهَماً وَلاَ دِينَاراً وَإنَّمَا أَوْرَثُوا أَحَادِيثَ مِنْ أَحَادِيثِهِمْ فَمَنْ أَخَذَ بِشَي‌ءٍ مِنْهَا فَقَدْ أَخَذَ حَظَّاً وَافِراً. كما في‌ ذيل‌ الرواية‌ الثانية‌: وَلَكِنْ وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ. فهاتان‌ الروايتان‌ إذَن‌ واردتان‌ في‌ مقام‌ بيان‌ وراثة‌ العلم‌ لا نستطيع‌ أن‌ نتعدّي‌ منه‌ إلی مقام‌ القضاء والولاية‌.

 وأمّا: الفقهاء حصون‌ الإسلام‌، والفقهاء أُمناء الرسل‌، فهذا جيّد؛ وَلاَبَأْسَ بِالاَخْذِ بِإطلاقِهِما في‌ كُلِّ ما يَرْجِعُ إلَی حِفْظِ الإسلامِ وَمَناصِبِ الرُّسُلِ مِنَ الوَلايَةِ وَالقَضاءِ وَ الإفتاء.

 ونستطيع‌ أن‌ نستفيد من‌ هذه‌ الروايات‌ ذلك‌ التقرير الذي‌ بيّنّاه‌ في‌ المراحل‌ الثلاث‌: القضاء و الإفتاء والولاية‌. ( فكما أنَّ حصن‌ المدينة‌ وسورهايحفظ‌ أهلها علی نحو الإطلاق‌، فكذلك‌ الفقهاء يحفظون‌ أهل‌ الإسلام‌ من‌ الحوادث‌ الخارجيّة‌. وكذلك‌ الامين‌ أمينٌ في‌ جميع‌ مَا يَرْجِعُ إلَيهِ المَأْمونُ مِنَ المَناصِبِ؛ مِن‌ مَناصِبِ الرِّسالَةِ وَالنُّبُوَّة‌. فهؤلاء العلماء الذين‌ هم‌ أُمناء وعُرِّفوا من‌ قِبَل‌ الانبياء بصفة‌ أُمناء الرسل‌، يجب‌ أن‌ يقوموا بالحراسة‌ والسعي‌ في‌ حفظ‌ الامانة‌ في‌ جميع‌ الجهات‌ التي‌ ترجع‌ للانبياء، الاعمّ من‌ الولاية‌ والقضاء و الإفتاء ). وعلي‌ هذا، فنستطيع‌ استفادة‌ ولاية‌ الفقيه‌ من‌ روايات‌ « حُصون‌ الإسلام‌، وأُمناء الرسل‌ »، ولا يمكننا استفادة‌ ذلك‌ من‌ روايات‌ « ورثة‌ الانبياء ».

 اللَهُمَّ صَلِّ عَلَی مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّد

این مورد را ارزیابی کنید
(0 رای‌ها)

پیام هفته

مصرف کردن بدون تولید
آیه شریفه : وَ لَنُذيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى‏ دُونَ الْعَذابِ الْأَکْبَرِ ... (سوره مبارکه سجده ، آیه 21)ترجمه : و ما به جز عذاب بزرگتر (در قیامت) از عذاب این دنیا نیز به آنان می چشانیم ...روایت : قال أبي جعفر ( ع ): ... و لله عز و جل عباد ملاعين مناكير ، لا يعيشون و لا يعيش الناس في أكنافهم و هم في عباده بمنزله الجراد لا يقعون على شيء إلا أتوا عليه .  (اصول کافی ، ج 8 ، ص 248 )ترجمه : امام باقر(ع) مي‌فرمايد: ... و خداوند بدگانی نفرین شده و ناهنجار دارد که مردم از تلاش آنان بهره مند نمی شوند و ایشان در میان مردم مانند ملخ هستند که به هر جیز برسند آن را می خورند و نابود می کنند.

ادامه مطلب

موسسه صراط مبین

نشانی : ایران - قم
صندوق پستی: 1516-37195
تلفن: 5-32906404 25 98+
پست الکترونیکی: این آدرس ایمیل توسط spambots حفاظت می شود. برای دیدن شما نیاز به جاوا اسکریپت دارید